من الزيتون الي قمبش .. موكب الطحين

من الزيتون الي قمبش .. موكب الطحين

مصطفى بدوي
بقلم : مصطفى بدوي

الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل.. الليل يمد عباءته على قرية الزيتون فيغمرها بسكينة تشبه حضن ام تهدهد وليدها.. الشوارع خالية الا من ظلال صامتة تتمدد فوق التراب.. البيوت غارقة في نومها.. الابواب مغلقة.. النوافذ موصدة.. الا بيتا واحدا يشع منه الضوء كنبض قلب لا يهدأ.. باب واسع مفتوح كانه يرحب بالليل نفسه ونجومه الساهرة
انه بيت ( الشيخ حسين بركات ).. بركة قريتنا التي وهبها الله لنا.. قطب وقته العالم الازهري المتصوف وجدنا المبارك.. ..والد  (الشيخ عمر  )صاحب الهيبة الصوفية والأزهري الجليل شيخ الطريقة الاحمدية الذي تباركه القرية كلما ذكر اسمه وتطيب به الالسنة في المجالس والدعاء داخل بيت الشيخ تتعالى الاصوات.. همهمات خافتة.. تسابيح تتراقص على الشفاه مع كل شهيق.. دعوات ترفع مع حركة الايادي النشطة.. والقلوب تدق في تناغم مع وقع اجولة القمح وهي ترفع على الاكتاف وتحمل في صمت الليل.. تخرج الى الطريق المظلم وقد حملت معها رائحة الخير والبركة في اتجاه ماكينة الطاحين التي تنتظر كعروس ليلة زفافها..ها هو الشيخ محمود عبد الفضيل ينادي في الجميع ليحمسهم.. والشيخ زين ينشد الصلوات.. والحاج محمد ابو ضي يجلس يمدح الرسول.. والحاج عامر يشرف على الطحين.. الكل يعمل في همة ونشاط كانهم في صلاة جماعية لا تنقطع .. كانت قريتنا في ليالي المولد تصحو على صمت الليل بقلوب تضيء قبل المصابيح .. الكل في خدمة طحين الشيخ.. ثلاث طواحين شامخة تخدم المولد دون اجر تيمنا وتبركا.. واحدة شرق البلد عند بيت الحاج صابر ابو محمود.. والثانية بحري البلد عند الحاج جابر ابو احمد.. والثالثة غرب البلد عند الحاج مصطفى ابو ضي.. ثلاث طواحين تدور كانها تسبح في الليل.. تحيط بكل واحدة منها مجموعة من الرجال والشباب يقسمون الادوار بينهم.. فريق يرفع الاجولة على الاكتاف.. فريق يجمع الطحين في الشكاير النظيفة.. وفريق ينقله مرة اخرى الى بيت الشيخ في صمت لا يقطعه الا الدعاء ومدح النبي الكريم ..وعلى مقربة من الطواحين.. كانت النار تشعل تحت راكية الشاي.. الرجال يلتفون حولها في برد الليل.. اكواب الشاي بالنعناع والدخان يتصاعد.. والحكايات تروى بين ضحكة وذكر ودعاء.. الليل يمتد طويلا لكنه لا يشعرهم بالملل.. فالبركة تمنحهم دفئا غريبا .. يحين الفجر فتشرق الشمس على القرية لتجد الطحين قد عاد الى بيت الشيخ.. ابيض مثل قلوبهم.. ناعما كدعائهم.. يجهزون به خبز المولد.. ويتركون الباقي في الاجولة استعدادا ليوم الرحيل الى قمبش.. استعدادا ليوم زفة طحين المولد وكان الجميع يعلم ان هذا اليوم ليس كاي يوم.. انه يوم الموكب العظيم.. يوم الرحيل الى قمبش تلك القرية المباركة بال عبد العليم البكري والشيخ جودة البكري شيوخ مشايخ الطريقة الاحمدية الخلوتية حيث يلتقي الطحين بالدعاء والقلوب بالقلوب..

(يوم زفة الطحين )
في صباح يوم تحرك الموكب ..اصطفت الجمال امام منزل الشيخ حسين بركات في مشهد يأسر العين.. كل جمل عليه شكاير الطحين مرتبة كصفوف المصلين في خشوع.. كان عدد الجمال كبيرا حتى انك لو وقفت عند باب الشيخ لرايت رؤوس الجمال تمتد حتى اول البلد عند الجسر... كانت القرية كلها في حالة استعداد لا يشبهها استعداد.. النساء يراقبن من خلف الشبابيك بقلوب تخفق.. الاطفال يجرون حفاة خلف الجمال وعيونهم تلمع بالشوق.. الرجال يراجعون ترتيب الصفوف ويثبتون الشكاير على ظهور الجمال بحبال منسوجة بخيوط البركة.. اتذكر جمل عم مصطفى ابو حامد وعم حسين ابو رمضان وعم حسن ابو جنيدي وجمل عم فارس ابو هبة وجمل عم عمر ابو هبة.. جميعهم يعتبرون هذا اليوم نذرا ولا يتقاضون اجرا بل يرونه شرفا يتباركون به .

فرقة عمك عزايم بمزماره الشهير كانت على اهبة الاستعداد.. النفخات الاولى من المزمار تهب مع نسيم الصبح فتحرك الوجدان.. الطبل البلدي ينبض بايقاع يرفع الارواح..  اصوات الزفة واناشيد المحبة.. النقطة نازلة علي رؤوسهم كتحية وتقدير وفرحة  كما تدور البركة في قلوبهم .
الجمال تبدا في التقدم.. واحدا تلو الاخر.. في هدوء مهيب.. الارض تهتز تحت خطاها كانها تسجد لله شكرا على هذا الموكب الطيب.. ويا بخت من كانت له واسطة تجعله يركب فوق الطحين على ظهر الجمل..كان الاطفال الذين يركبون على الجمال ينظرون الينا بكبرياء كانهم يركبون سيارات هامر من فرط سعادتهم وفخرهمكان المشهد مهيبا حقا.. الجميع ينتظر اللحظة الفارقة.. لحظة خروج (الشيخ عمر ) من البيت ليقود الموكب كعادته..  كان لطلته هيبة نورانية تشبه الشروق.. يخرج معطرا.. تسبقه رائحة البركة التي يعرفها اهل القرية.. كان وجهه مشرقا كانه قطعة من الفجر والطمأنينة تسير خلفه حيث سار.. وكان اول ما يفعله في هذا اليوم ان يذهب مسرعا ليزور والده الشيخ حسين بركات في مقامه ثم يعود ليبدا الموكب
وبمجرد ظهور الشيخ /عمر تنطلق الزغاريد من كل مكان وتتعالي عبارات التقدير والمباركة  ( نورتها ياحبيب النبي نورتها ) ( العاشق في جمال النبي يصلي عليه ) .. وفوق رؤوس الاطفال تتطاير حبات الفنضام والضربس والتوفي ... وام الشيخ محمود ترش الملح فوق رؤوسنا تبركا وحفظا من العين  فكانت تعمي أعيننا  .. وتملأ رؤوسنا بالملح .
الشيخ مختار يقف بجوار ركوبة الشيخ عمر.. يمسك بزمامها بيد وفي اليد الاخرى الشمسية الخضراء التي ستظل جدنا الجليل في رحلته تحت شمس الطريق.. تلك الشمسية التي كانت ترى من بعيد علامة يعرفها الجميع.

ثم يتحرك الموكب فيصير للقرية ايقاع جديد.. ايقاع تشترك فيه خطوات الجمال ودقات الطبول وزفرات الدعاء وضحكات الاطفال.. لتخرج قافلة الطحين الى قمبش.. لا تحمل طحينا فقط بل تحمل قلوبا موحدة ودعاء لا ينقطع وبركة تمشي على الارض حتى تصل الى اهل الله في ارض الله..كان موكب الطحين يلف القرية كلها والتكبيرات تتعالى والصلوات تخرج من قلوب طاهرة.. كنا نسير مع الموكب ونحن اطفال يملؤنا الفرح وتغمرنا روحانيات صادقة

النساء تتهافت لتصل الى الرايات تمسح وجوه اطفالهن بها تبركا وتيمنا والقلوب معلقة بالدعاء والذكر.. يا لها من ايام جميلة.. عشناها بقلوب صافية.. ايام كلها حب ودفء.. صنعت لنا ذكريات صادقة نرجو من الله ان تعود.. ذكريات جميلة.. ذكريات لا تنسى.. كتبت بارواحنا على جدار الذاكرة
رحم الله الشيخ عمر .. الشيخ الجليل المهيب المفوه المبارك صاحب السيرة العطرة وبارك الله في الشيخ مصطفى وابنائه..
لو اكملت للنهاية ولك ذكريات مع موكب الطحين ذكرنا بها .. فهدفي من الكتابة أن  نحيي الذكريات الجميلة 



إرسال تعليق

0 تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم