من حبي فيك يا جاري.. حين تهزم الذكريات الوحدة بالصداقة والحياة

فيلم من حبي فيك ياجاري

🎬حين تتكلم العيون وتغني الذكريات.. قراءة إنسانية في فيلم "من حبي فيك يا جاري"

عارفة عبد الرسول.. صوت الصمت في السينما المصرية

مقال نقدي 

بقلم  : نهى إبراهيم عيد

منذ عدة سنوات كتبت قصة قصيرة ضمن مجموعة قصصية ،القصة كانت بعنوان أقراص منومة ،تحكى عن مسنة تبلغ من العمر الستين أو ما يزيد تجلس بمفردها تعانى الوحدة بعد وفاة زوجها وزواج ابنها وابنتها ،تعاند الأيام بالذكريات ومحاولة استنشاق عبير الماضي البعيد جدا عنها الآن،حتى زارها أولادها بيوم من الأيام فسعدت كثيرا حتى اكتشفت تلك المشكلات التى قادتهم نحوها وفور انتهاء الأسباب من جهة كل واحد منهم كان الانسحاب السريع المفاجئالذي أصاب الأم حينها بالخيبة فعادت لحياتها القديمة ،جيرانها وكذلك تلقاها القديم الذي ظلت تحرك به حتى تتضح لها الصورة ...

لحسن الحظ شاهدت أحد الأفلام القصيرة (من حبي فيك يا جاري)الفيلم مدته لا تزيد عن ثماني دقائق فيلم روائي قصير من بطولة الفنانة عارفة عبد الرسول،الفنان مصطفى درويش ،تأليف وإخراج ريهام الطحاوي

تعتبر بداية الفيلم شاعرية منذ مدخل الموسيقى الحالمة حتى جلسة السيدة على كرسيها باسترخاء ثم حركتها نحو صندوقها الصغير ،راقنى ذلك المدخل خصوصا أنه يبرز مفاتيحها الخاصة التى بدأت بشرفتها المفتوحة ثم لحظة استرجاعها ذكرياتها القديمة أثناء مشاهدتها الصور بالصندوق القديم فكانت الصورة الأولى لزواجها وهى تتذكر إحدى عبارات التهئنة ثم الثانية التى كانت عند ولادة اولادها ثم صورة لابنها الكبير وهو يطلب منها السماح كى يغادر مصر إلى كندا ،ثم صورة ابنتها وهى تقول لها انها قد أتتها منحة بفرنسا  وأخيرا صورة لزوجها وهو يفارق الحياة تاركا إياها وحيدة وسط عبارات الرجاءمن أولادها كى تذهب إليهم حيث يقيموا

تضع السيدة نظارتها الطبية برفق ثم تنظر نحو الصندوق الخشبي بنوع من الحزن الممزوج بشجن كبير ،تلتقط بعد ذلك عدستها لتنظر نحو الشرفة المقابلة للجيران من وراء شرفتها تتابع ربة المنزل الأخرى وهى تعد الساندوتشات ،تنظر نحوهم مبتسمة وذلك الشال الأحمر يحيط بجسدها النحيل ،تنتقل سريعا نحو الداخل وتلك الأغنية القديمة (من حبي فيك يا جاري)تعود بكامل بريقها بصوت حورية حسن وهى تتابع طهيها للطعام ،تعاود النظر مرة أخرى نحو الجيران وتتابع الزوجة وهى تقوم بتقطيع البطاطس ثم تغلق شرفتها لتعود الكرة بعد ساعات  وهى تعتنى بزرعها ،تزيل الأتربة من الشرفة بلين وهدوء ثم تتابع بنت جارتها وهى عائدة من المدرسة رفقة أحدهم تطلق نظرة مبتسمة وكأنها تذكرها بما سبق وكان في يوم من الأيام ،تركت الستينية الجيران وهم يتناولون الغداء ويتناقلون اياه من أحدهم للآخر ثم اتجهت صوب طاولتها و كرسيها المفضل المقابل الشرفة ثم تناولت حساءا خفيفا ...

صباح اليوم التالى قامت على دقات المنبه فنظرت نحو ساعتها برهبة وهرولت مندفعة نحو شرفة الجيران التى وجدتها مغلقة لأول مرة نظرت يمينا ويسارا ثم اتكأت على ساعدها ناظرة نحو الجيران ثم وضعت كرسيها وهى جالسة أمام شرفة الجيران المغلقة حتى يأست من خروج أحدهم فقامت بالقاء المشابك الخشبية على الشباك هناك لكن أحدا لم يرد عليها ،حالة اليأس من ظهورهم قادتها للخضوع بالاخير فعاودت النظر نحو تلك الصورة القديمة المعلقة لزوجها لتمسحها برفق حتى ارتفع صوت البواب وهو يرحب بالسكان الجدد ،قامت بتغيير ملابسها لأول مرة بالفيلم ونظرت نحو وجهها بالمرآة مبتسمة ثم تضع منظارها بالدرج الصغير وكأنها تعلن عدم حاجتها له بعد الآن ثم تقف بالشرفة وتشير للصغيرة ووالدتها فيبتسمان لها ويردون لها التحية ..ينتهى الفيلم بالأغنية ذاتها التى تحمل اسم الفيلم لكن بتوزيع حديث أضفى له بريقا و رونقا وكأنه ينقلنا من حالة الشاعرية إلى نقطة من الواقعية التى لابد لها أن تفرض ذاتها على العاطفة على طول الطريق ..

لقد كان اختيار اسم الفيلم موفقا جدا خاصة عند ربط الأحداث بالأغنية القديمة التى تضع المتفرج داخل عبق الماضي بكل لمساته حتى نغماته ، راقنى اختيار الفنانة عارفة عبد الرسول لهذه الشخصية التى تكاد تكون مرسومة عليها من حيث العامل العمرى لسيدة تتعدى الستين ثم العامل الشكلي الذي أخذت به العلامة الكاملة فهى سيدة قصيرة ،قليلة الحجم ،لتوحى بتلك المرحلة التى يبدأ بها الجسد فى التحول من الشباب والرونق إلى النضج والكبر والعودة من جديد نحو الطفولة والحجم الصغير ،

لقد نجحت كثيرا لإضفاء معالم كثيرة على الشخصية سواء بارتدائها نفس الفستان باللون الباهت الذي يعبر عن نفسيتها بالفترة الحالية وهى تعانى الوحدة الكبيرة حتى ذلك الغطاء على رأسها بطبيعة أغلب السيدات بذلك العمر ،ذلك الشال الذي تلتف به طوال الست دقائق قبل نهاية الفيلم بدقيقة ليوحى بنوع من الأمان ومحاولة حماية الذات ،خاتم زواجها الذى لا تزل محتفظة به و الساعة القديمة التى ترتديها ..كلها مفردات قادت العمل القصير للنجاح والتفرد.

فيلم قصير

الموسيقى كانت رائعة لدرجة كبيرة تجعل المتلقى يشعر بالسعادة وهو يتعرف على حالة إنسانية تدعو للشفقة لكنها تنقلك إلى احساس كبير بالتفاؤل نحو المستقبل ،ديكورات المنزل القديمة أو هى الدارجة بأغلب البيوت المصرية ذي الطراز القديم كانت من ضمن عوامل نجاح الفيلم ، تعد حالة الوحدة التى يعانى منها كبار السن بمرحلة متقدمة بالعمر وعند انقطاع الجميع عنهم من أكثر المشكلات خطورة وحساسية عليهم ،الوحدة كلمة بشدة الدقة والحساسية لا يشعر بها إلا من عاشها دقاتها ولحظاتها واحدة بواحدة يتابع عقارب الساعة وهى تدور وهو مكبل اليدين أمامها سارحا فى ذكريات المكان وباكيا حظه فيمن ذهب وبقى ،

يحاول الشخص المقترن بالوحدة أن يجد لها حلا على طول الطريق سواء بالخروج إلى دور المسنين حيث الصحبة والونس أو الاستجابة لنداء ها ومصادقتها إلى الأبد فتكون الوحدة بصور و محببة نحوهم أو الالتصاق بها كسجين من الصعب له التخلص من قيودها ..

تناولت بعض الأفلام العالمية الوحدة والانعزال بطريقةمختلفة كفيلم الذي   repulsion

تستكشف الانحدار النفسي لشابة تُدعى كارول، تعيش في لندن وتعاني من رهاب العزلة. عندما تُترك وحيدة في شقة أختها، تبدأ كارول بالانغماس في دوامة من الجنون لتتحول حياتها اليومية إلى سلسلة من الكوابيس والهلوسات. .

من يتابع فيلمنا سوف يعشق حالته فهو لم يفرض الحالة ببؤس ودراما لكنها لحظات من حياة فارغة ومتفرعة استغلتها السيدة بمتابعة من لهم حياة على عكس حالتها الآن ،عشقت الحياة عند الجيران فكانوا مصدر أنسها الدائم على مدار اليوم ،

عدم التعبير بالصوت بالفيلم وأداء عارفة عبد الرسول الصامت كان من أكثر الأشياء تحديا وقوة بنفس الوقت بالنسبة لمشاهد الفيلم فالصمت هو تعبير حقيقي عن حالتها التى ألزمتها إلى مصادقة نفسها ،هى دون غيرها أبدا..

أعجبتنى النهاية عندما خلعت ملابسها الباهتة ونظرت صوب نفسها بالمرآة ،أخفت منظارها وحاولت لأول مرة أن تقف أمام جيرانها وجها لوجه كى تتعرف عليهم وكأنها تعود للحياة من جديد بلون مشرق بصباح اليوم الجديد ،فتلك هى الحياة يوم باهت لا معنى له ويوم قاتم لا يمكن أبدا إزالته من شريط الذكريات ويوم مشرق مبهج يجوب بنا فى الأرجاء .

تناجينا الذكريات بأشكال عدة فنذهب خلفها كالثكلى ،نغيب عن الواقع بإرادتنا كى نحياها دون إرادتنا ،بالأخير هى نفس الكلمة التى تبقى هى السبب والسبيل للجميع "الحياة وكفى

من أجلها ننسى أو لا نستطيع ،نتغافى أو لا نقدر ،نتذكر  و نتذكر ..تلك هى الفكرة وذلك هو المتاح ،فمن أجل الحياة لك أن تختار أن تحيا حياة مشرقة ،تجدد بها الأمل بكل يوم أو أن ترتدى زي قاتم لن تستطع أن تخرج من عباءته أبدا..ولك فى النهاية أن تختار .

🎥مشاهدة الفيلم على اليوتيوب

إعداد فريق موقع الشمس اليوم


إرسال تعليق

0 تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم