الوجود والعدم: قراءة في فكر الفيلسوفين سارتر وهايدغر

 

سارتر وهايدغر

🔭 بين المعلم والتلميذ: من الوجود الميتافيزيقي إلى الإنسان الحُرّ

رغم أن سارتر وهايدغر يلتقيان تحت مظلة “الوجودية”، فإن العلاقة بينهما هي علاقة تأثر وتميّز أكثر منها تشابه.
فـ هايدغر هو الفيلسوف الألماني الذي أراد أن يعيد السؤال عن معنى الوجود ذاته، بعيدًا عن الإنسان كموضوع للدراسة. كان يسعى إلى فهم “الوجود بما هو وجود”، متتبعًا جذوره في اللغة والزمان والكينونة.

أما سارتر، فقد جاء بعده بسنوات، وتأثر به تأثرًا عميقًا، لكنه اتجه في مسار آخر:
نقل الفلسفة من تأمل الوجود المجرد إلى الإنسان نفسه، إلى الشارع والمقهى والموقف اليومي.
فبينما كان هايدغر يتحدث عن “الكائن في العالم”، كان سارتر يتحدث عن “الإنسان الذي يصنع عالمه”.

يمكن القول إن هايدغر هو المعلم الذي أيقظ السؤال، وسارتر هو التلميذ الذي أجاب عليه بطريقته الخاصة، ليحوّل القلق الوجودي إلى مسؤولية وحرية وإبداع.


في البدء، لم يكن الإنسان يعرف من ذاته سوى أنه كائن يعيش في هذا العالم، يتنفس هواءه، ويأكل من ثمره، ويموت كما تموت الكائنات. لكن شيئًا ما في أعماقه ظلّ يلحّ عليه: ما معنى أن أكون؟

من هذه اللحظة بدأ الفكر الفلسفي رحلته الكبرى نحو “الوجود”، وأخذ يتأمل في السرّ الذي يجعل الإنسان حاضرًا في العالم، لا كشيءٍ ضمن الأشياء، بل ككائن يعي وجوده ويسأل عنه.

على هذا السؤال تأسست فلسفات كبرى، لكن القرن العشرين شهد ثورة فكرية غيّرت مجرى التأمل الفلسفي كله، قادها مارتن هايدغر وجان بول سارتر، اللذان جعلا “الوجود” و“العدم” محورًا لرؤية جديدة للإنسان والعالم.


🌑 أولاً: الوجود عند هايدغر — الإنسان بوصفه كائنًا في العالم

هايدغر لم يكن يسأل: “ما هو الوجود؟” فحسب، بل سأل: “ما معنى أن يكون هناك وجود أصلًا؟”
كان يرى أن الفلسفة منذ أفلاطون وحتى نيتشه، انشغلت بالأشياء الموجودة دون أن تسأل عن معنى “الوجود” ذاته. لذلك أراد أن يعود إلى هذا السؤال الأصلي الذي نسيه الفكر الغربي.

في كتابه الشهير «الوجود والزمان» (1927)، انطلق هايدغر من الإنسان نفسه، الذي سمّاه “الدازاين” (Dasein)، أي “الكائن-هنا”.
ليس الإنسان جوهرًا ثابتًا أو عقلًا خالصًا، بل هو وجود منفتح على العالم، يعيش فيه ويتفاعل معه.
هايدغر يقول إن الإنسان لا يوجد أولًا ثم يعيش، بل وجوده هو طريقة عيشه. الوجود ليس شيئًا خارج الإنسان، بل هو فعله اليومي، خوفه، قلقه، أمله، وموته.

الوجود الإنساني عنده ليس مكتملًا، بل وجود نحو الإمكان. الإنسان مشروع مفتوح على المستقبل، لا يعرف ماهيته إلا من خلال ما يفعله وما يختاره.


⏳ القلق بوصفه وعيًا بالعدم

القلق عند هايدغر ليس مرضًا نفسيًا، بل تجربة كونية.
حين يقلق الإنسان، يشعر بأن العالم فقد معناه، وكل الأشياء التي كانت تمنحه الأمان تنسحب.
في لحظة القلق، يواجه الإنسان “العدم” — ليس العدم بمعنى الفناء، بل بوصفه انكشاف فراغ المعنى.
ومن خلال هذا الفراغ يدرك الإنسان أنه حرّ، وأن وجوده ليس محددًا سلفًا.

العدم هنا ليس نقيضًا للوجود، بل شرطًا له. فحين نرى حدودنا، ندرك وجودنا الأصيل.
لذلك، يقول هايدغر:

“العدم ليس العدم، بل هو الذي يكشف الوجود.”


🌌 ثانيًا: الوجود عند سارتر — الإنسان يصنع ذاته

حين قرأ سارتر هايدغر، وجد في فكره مفتاحًا لفهم الإنسان، لكنه قرر أن يذهب أبعد.
ففي كتابه «الوجود والعدم» (1943)، أعلن ميلاد فلسفة جديدة: الوجودية الإنسانية.

يرى سارتر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يوجد أولًا ثم يختار ماهيته بنفسه.
أي أنه لا يولد وهو يحمل جوهرًا ثابتًا أو طبيعة محددة.
“الوجود يسبق الماهية” — هذه هي الجملة التي لخص بها سارتر فكرته الكبرى.

فما الإنسان إذن؟
إنه لا شيء سوى ما يصنعه بنفسه.
لا إله يقرر مصيره، ولا طبيعة تفرض عليه طريقًا واحدًا، بل هو وحده الذي يختار، ويصبح مسؤولًا عن كل ما يفعل.


🔥 الحرية والعبء

يقول سارتر:

“الإنسان محكوم عليه بالحرية.”

جملة صادمة، لكنها تلخص مأساة الوجود الإنساني.
فالحرية ليست هدية، بل عبء.
حين تكون حرًّا تمامًا، لا يمكنك أن تلوم أحدًا على ما أنت عليه.
كل قرار تتخذه، حتى الصمت، هو اختيار.
ومن هنا تنبع المسؤولية الأخلاقية المطلقة:
إذا اخترت أن تكون شيئًا، فأنت تعلن للعالم أن هذا هو الإنسان كما ينبغي أن يكون.

في مقابل “الوجود الأصيل” عند هايدغر، يتحدث سارتر عن “الوجود الزائف” — حين يهرب الإنسان من حريته، ويتذرع بالظروف أو القدر أو الآخرين.
يسمي سارتر هذا الهروب “سوء النية” (mauvaise foi)، أي أن يخدع الإنسان نفسه ليتفادى القلق الناتج عن الحرية.


🌫️ العدم في فكر سارتر

العدم عند سارتر ليس مفهوماً ميتافيزيقيًا بل تجربة وعي.
حين ينتظر إنسان صديقه في المقهى فلا يأتي، فإن غيابه يصبح حضورًا في الوعي: غيابه يُملأ بالعدم.
وهكذا يرى سارتر أن العدم يولد من داخل الوعي البشري، لأن الوعي قادر على نفي ما هو موجود.

الوعي، بصفته قدرة على قول “لا”، هو الذي يفتح المجال للحرية.
فالإنسان لا يعيش فقط في العالم، بل يقف أمامه، ينفيه، يعيد تشكيله.
بهذا المعنى، العدم هو الشرط الداخلي للحرية الإنسانية.


🪞 لقاء الفيلسوفين: من “الوجود في العالم” إلى “الوجود للذات”

هايدغر وسارتر يشتركان في نقطة البداية: الإنسان ليس جوهرًا ثابتًا، بل وجود في علاقة مع العالم.
لكن الفرق بينهما دقيق وعميق في آنٍ واحد.

  • هايدغر يرى الإنسان كـ “كائن في العالم”، يتحدد وجوده من خلال انفتاحه على الكينونة الكبرى.

  • سارتر يرى الإنسان كـ “وعي لذاته”، منفصل عن الأشياء، يخلق معناه بنفسه.

هايدغر يتحدث بلغة الوجود ذاته، بينما يتحدث سارتر بلغة الإنسان الفرد.
الأول أنطولوجي (وجودي ميتافيزيقي)، والثاني إنساني وجودي (أخلاقي وتجريبي).

عند هايدغر، العدم يكشف الوجود الأصيل؛
وعند سارتر، العدم ينبع من الوعي ليؤسس الحرية.
كلاهما يرى أن الوجود لا يُعطى جاهزًا، بل يُخلق عبر القلق، والاختيار، والوعي بالموت.


⚖️ بين القلق والأمل

القلق في الفلسفة الوجودية ليس يأسًا، بل هو وعي بالحرية.
حين يشعر الإنسان بالعبث، فإنه في الحقيقة يدرك أنه وحده من يملك أن يمنح لحياته معنى.
من هنا تتحول الفلسفة من مجرد تأمل في الماوراء إلى نداء إنساني عميق: كن أنت نفسك.

سارتر يقول:

“ليس المهم ما فعلوه بك، بل ما تفعل أنت بما فعلوه بك.”

هذه الجملة وحدها تختصر روح الوجودية كلها:
الإنسان لا يُقاس بما يملكه، بل بما يصنعه من ذاته أمام العدم.


🌅 الوجود بين السؤال والإبداع

في النهاية، لا يمكن الحديث عن “الوجود والعدم” دون الشعور بأننا أمام مرآة تعكس وجوهنا نحن.
كل إنسان يمر بتجربة القلق، بالسؤال عن المعنى، بالبحث عن ذاته وسط الضجيج.
ولعلّ هذا ما يجعل فلسفة هايدغر وسارتر باقية حتى اليوم:
لأنها لا تتحدث عن “الإنسان المجرد”، بل عن أنا وأنت ونحن.

الوجود ليس لغزًا يُحلّ، بل تجربة تُعاش.
والعدم ليس نهاية، بل بداية وعي جديد.
إنه لحظة الصمت التي تسبق الكلمة، والفراغ الذي يولد منه الإبداع.

لذلك، ربما كان “الوجود والعدم” ليس فقط كتابين أو مذهبين فلسفيين، بل قصيدة كونية عن الإنسان وهو يواجه ذاته في مرآة الكون.

إرسال تعليق

0 تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم