ريحانة " عَروس المّقابر "
عادت إلى غرفتها مذعورة .. وأغلقت الباب بالمفتاح.. ألقت نظرة على الكتاب، فوجدت الصفحة التي كانت تقرأها قد تغيّرت وحدها.. النص لم يعد نفسه..ظهرت كلمات جديدة مكتوبة بخط يدوي مُتعرّج:
"مرحبا بك يا ريحانة… كنت في انتظارك "
شَهقت وسقط الكتاب من يدها.. قلبها يخفق بجنون.. كيف يعرف الكتاب اسمها؟!
قضت تلك الليلة في خوف شديد، تحاول أن تقنع نفسها أن الأمر مجرد وهم أو هلوسة.. لكنها حين استيقظت صباحًا، وجدت الكتاب مفتوحًا على صفحة أخرى، وكُتب بخط أحمر واضح:
"إذا أردت أن تعرفي سري.. تابعي حتى النهاية "
وفي البداية كان في شتاء قاهري بارد، وبين جدران شقة صغيرة في حي مُزدحم، كانت ريحانة تقضي أغلب وقتها في عُزلةٍ عن العالم.. فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، هادئة الملامح، متوهجة العينين، تتكئ على عالمها الخاص من الروايات.. منذ انفصال والديها، اعتادت أن تجد في الكتب ملاذًا من صخب الخلافات العائلية.. والدها يعيش في الإسكندرية، بينما بقيت هي مع والدتها في القاهرة .. لم تكن تشعر بالراحة في بيت الأم، ولا بالدفء الأسري المفقود، لكنها كانت تحاول الهروب من ذلك عبر القراءة، كأنها تغلق أبواب الدنيا على نفسها، وتفتح بابًا آخر إلى عوالم غامضة.
حين أتى موعد إجازة نصف العام الدراسي، قررت أن تقضيها عند أبيها في الإسكندرية، علّها تجد في البحر ونسيمه البارد راحةً لقلبها.. وصلَت إلى حي لوران، ذلك الحي الساحلي الهادئ، حيث تعانق العمارات القديمة زرقة البحر، وتتشابك رائحة الملوحة مع أصوات النوارس.. في شقة والدها المطلة على شارع جانبي يؤدي إلى الكورنيش، وجدت نفسها أخيرًا وسط جوً أكثر صفاءً، بعيدًا عن ضوضاء القاهرة التي أرهقتها.
كان والدها رجلاً عمليًّا، قليل الكلام، منشغلًا بأعماله.. ترك لها حرية قضاء وقتها كيفما تشاء.. فكانت تقضي ساعات النهار الطويلة متكئة على شرفتها، أو جالسةً في غرفتها تقرأ الروايات التي ملأت حقيبتها. الجو كان رائعًا، شتاءً باردًا يحمل في أنفاسه نسيمًا منعشًا يبعث على التأمل.
وذات يوم، قررت أن تتمشّى قليلًا في السوق الشعبي القريب من منزل والدها.. السوق ضيّق مزدحم، تفوح منه روائح السمك الطازج والتوابل، وتصدح فيه أصوات الباعة. لم يكن في نيتها شراء شيء، لكن عينيها وقعتا فجأة على دكانٍ صغير مهجور الملامح، تتدلى فوق بابه لافتة باهتة كتب عليها: " مكتبة ماضي للكتب ".
ترددت لحظة، ثم دخلت. داخل المكان كان الجو غريبًا: غبار كثيف يملأ الأرفف، ورائحة الورق القديم تختلط بعبق عطن يشبه رائحة المقابر .. خلف طاولة خشبية جلس رجل مُسن، عيناه غائرتان، يبتسم ابتسامة غامضة.
بينما كانت تتفحص العناوين المُكدّسة، استوقفها كتاب غريب.. كان ذا غلاف أسود قاتم، تتوسطه صورة باهتة لعروس ترتدي ثوبًا أبيض، لكن ملامح وجهها مطموسة تمامًا. عنوانه كان محفورًا بخط أحمر داكن: "عروس المقابر"
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، لكنها مدّت يدها والتقطته.. سألها العجوز بصوت متقطّع:
– هل تنوين شراءه يا ابنتي؟
أجابت بتردد: نعم… كم ثمنه؟
ابتسم ابتسامة عريضة وقال: "من أجلك… بلا ثمن.. يكفي أن تأخذي الكتاب، فهو يبحث عن قارئه."
ارتجفت من غرابة جوابه، لكنها لم تشأ أن تجادل. شكرت الرجل وغادرت تحمل الكتاب بين يديها كأنها تحمل شيئًا أثقل من وزنه.
في مساء ذلك اليوم، جلست على سريرها، وأضاءت المصباح، وبدأت تقرأ.. في البداية، بدا الكتاب مجرد رواية قديمة مكتوبة بلغة فصيحة، تتحدث عن أسطورة عروس ماتت ليلة زفافها ودُفنت في ثوبها الأبيض، ثم تحوّلت إلى روحٍ هائمة في المقابر.
لكن مع توالي الصفحات، بدأت تشعر بأن الكلمات تتحرك أمام عينيها وكأنها تنبض بالحياة ! .. الأجواء في الغرفة تغيرت.. الريح تسللت من شقوق النافذة رغم أنها كانت مغلقة بإحكام..المصباح الكهربائي بدأ يومض..وفي اللحظة التي وصلت فيها إلى وصفٍ للجنازة الغامضة للعروس، سمعت صوت خطوات بطيئة في الممر المؤدي لغرفتها.. تجمّدت في مكانها.. والدها لم يكن في المنزل، وهو قد أخبرها أنه سيبيت في عمله الليلة .. إذًا من يكون؟
قامت بخطوات مترددة نحو الباب، فتحته ببطء، فلم تجد أحدًا. الممر كان خاليًا، لكن رائحة غريبة ملأت المكان… رائحة تراب ورطوبة تشبه رائحة المقابر.
عادت إلى غرفتها مذعورة، وأغلقت الباب بالمفتاح.. ألقت نظرة على الكتاب، فوجدت الصفحة التي كانت تقرأها قد تغيّرت وحدها.. النص لم يعد نفسه.. ظهرت كلمات جديدة مكتوبة بخط يدوي متعرّج:
"مرحبا بك يا ريحانة… كنت في انتظارك."
شهقت وسقط الكتاب من يدها.. قلبها يخفق بجنون.. كيف يعرف الكتاب اسمها؟!
قضت تلك الليلة في خوف شديد، تحاول أن تقنع نفسها أن الأمر مجرد وهم أو هلوسة.. لكنها حين استيقظت صباحًا، وجدت الكتاب مفتوحًا على صفحة أخرى، وكُتب بخط أحمر واضح:
"إذا أردت أن تعرفي سري .. تابعي حتى النهاية "
منذ تلك اللحظة، تغير كل شيء.. أصوات غريبة تهمس عند منتصف الليل .. انعكاسات لفتاة بثوب أبيض تظهر في زجاج النافذة .. وقطرات ماء باردة تسيل من سقف غرفتها رغم جفاف الطقس.
كانت تشعر بأن العروس التي تَحدث عنها الكتاب قد خرجت من صفحاته لتطاردها.. لكن عقلها المليء بالفضول لم يسمح لها أن تتوقف عن القراءة .. كانت مقتنعة أن الحل الوحيد لفهم ما يحدث هو أن تواصل الغوص في صفحات الكتاب حتى تكشف اللغز .
ومع كل صفحة جديدة، كانت تشعر أنها تُسحب أكثر فأكثر إلى عالمٍ غامض، كأن بين سطور الكتاب بابًا يفتح على المقابر ذاتها.
في ليلة ثالثة، بينما كانت تقرأ بشغف ممزوج بالرعب، وجدت فقرة تصف فتاة تشبهها تمامًا: "ذات العينين الواسعتين، والشعر الأسود المنسدل، تسكن حيًّا ساحليًا، وتحب القراءة…".
ارتجفت، وتأكدت أن الكتاب لا يروي قصة قديمة وحسب، بل يتنبأ بحياتها.
رفعت عينيها نحو المرآة، فرأت خلف انعكاسها ظلًّا لعروس بثوب أبيض تقف في ركن الغرفة، بلا وجه.
صرخت، ثم أطبقت الكتاب بعنف، وهي تدرك أنها دخلت في متاهة لا عودة منها.
وبينما ارتعشت يداها وهي تمسك بالغلاف الأسود، همست لنفسها:
– لا بد أن أعرف سر هذا الكتاب… وسر هذه العروس الملعونة.
كانت ريحانة تجلس في الصالة وحدها، وقد غلبها الأرق.. منذ أن بدأ الكتاب يخطّ لها كلمات غامضة باسمهـا، لم تعد تعرف طعم النوم.. أطفأت الأنوار واكتفت بمصباح جانبي يضيء ركن الغرفة، في حين ظلّت تنصت لصوت البحر البعيد يتسلل عبر النوافذ.. في الإسكندرية، الليل مختلف.. رائحة الملح لا تغيب، والنسيم البارد يدخل البيوت حتى لو أُحكمت إغلاق النوافذ.
في هذا السكون الموحش، دوّى جرس الباب فجأة. ارتجفت. نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط، فإذا بها تشير إلى الحادية عشرة والنصف مساءً. من ذا الذي قد يزورها في هذا الوقت؟ ترددت لحظة، ثم نهضت ببطء. اقتربت من الباب وهي تحاول أن تكتم أنفاسها، ثم فتحت بحذر.
كان هناك رجل غريب، طويل القامة، يرتدي معطفًا داكن اللون .. لم يكن مظهره عابرًا كأي غريب، بل فيه شيء ثقيل، وكأن خطواته محمّلة بتاريخ طويل من الأسرار.. انحنى قليلًا وقال بصوتٍ خفيض لكنه صارم:
– مساء الخير يا ريحانة.
شهقت حين نطق اسمها. لم تسأله كيف يعرفها، بل تجمدت في مكانها. رفع الرجل رأسه قليلًا ليكشف عن عينين ثاقبتين، وقال:
– أنا اسمي عزت الدمنهوري. ربما لم تسمعي عني من قبل، لكنني سمعت عنك… وعن الكتاب الذي بحوزتك.
ابتلعت ريقها بصعوبة، وردت بصوت مرتجف:
– أي كتاب؟
ابتسم ابتسامة صغيرة خالية من الدفء:
– كتاب "عروس المقابر".
شعرت ببرودة تسري في أطرافها، وكأن نسمة البحر صارت سكينًا.. تراجعت خطوة، تمسكت بحافة الباب كأنها تستعد لإغلاقه في وجهه، لكنه رفع يده في هدوء وقال:
– لا تخافي. لم آتِ لأؤذيك. فقط أريد أن أحذرك.
سكتت لحظة ثم همست:
– تحذرني من ماذا؟
تنحنح وأخذ يراقبها بتمعن قبل أن يجيب:
– من الكتاب .. صدقيني لستِ أول من يفتنه هذا الغلاف الأسود.. قبلك كانت هناك نساء كثيرات حاولن قراءة أسراره، لكن لم ينجُ أحد.
سألته بارتباك:
– ماذا تقصد؟
جلس على حافة الدرج أمام بابها دون أن يستأذن، وكأنه يهيئ نفسه لقص حكاية طويلة، ثم قال بصوت خفيض:
– حي لوران الذي تعيشين فيه… ملعون منذ عقود. هل سمعتِ بقصة العرائس اللواتي يموتن في ليلة زفافهن؟
هزت رأسها نفيًا، لكنه تابع:
– منذ زمن بعيد، في الأربعينيات، بدأت اللعنة.. أول عروس ماتت كانت في ليلة دخلتها، وجدها أهلها جثة باردة بلا أثر لجرح أو مرض.. ومنذ ذلك الحين، كل من تُزف هنا تُلقى نفس المصير.. رجال كثيرين هربوا من الحي، وآباء امتنعوا عن تزويج بناتهم.. والكتاب الذي بين يديك… كان الوسيلة الوحيدة لإبطال هذه اللعنة.
تسمرت ريحانة في مكانها، وقالت بشك:
– لكن… كيف يكون كتاب هو الذي يرفع لعنة؟
أجاب وهو يحدق في الأرض:
– لأنه ليس كتابًا عاديًا. كُتب بدماء، واحتوى على تعاويذ استخدمها ساحر عجوز عاش في هذا الحي. كان الرجل الوحيد الذي يعرف كيف يحمي العرائس من مصيرهن. لكنه مات فجأة… وضاع الكتاب بعده. ومنذ ذلك الحين، لم تسلم أي عروس.
رفعت يدها لتغلق الباب، لكنها توقفت حين سمعته يقول:
– والآن، بعد أن عاد الكتاب للظهور، سيتوافد الكثيرون. بعضهم يريد إنقاذ الفتيات، وآخرون يريدون القوة لأنفسهم. وأنت… تملكين النسخة الوحيدة.
سرت قشعريرة في جسدها، لكنها تمالكت نفسها وقالت:
– وماذا عنك أنت؟ أي جانب تقف فيه؟
رفع عينيه إليها ببطء، وقال بابتسامة باهتة:
– هذا ما ستكتشفينه بنفسك.
ثم نهض، وأدار ظهره، وابتعد بخطوات ثابتة تاركًا وراءه صدى كلماته يتردد في أذنيها. أغلقت الباب بسرعة وأسندت ظهرها إليه، تتنفس كأنها ركضت مسافة طويلة.
جلست في الصالة ترتجف. عقلها لا يتوقف عن طرح الأسئلة: كيف عرف مكانها؟ من أرسل إليه خبر الكتاب؟ ولماذا لم يقتحم عليها المنزل ويأخذ الكتاب بالقوه وهى فتاة لم تستطع الدفاع عن نفسها ؟ولماذا انصرف دون أن يطلبه منها ؟ ولماذا تشعر أن كل كلمة قالها صحيحة؟
تذكرت شيئاً تريد لو أنها تلحق بالرجل لتسأله عنه لتنهض وتسرع نحو الباب .. تفتحه وتتفقد الأسانسير لتجده متوقف في نفس الطابق التي تقف هي فيه ، إذاً الراجل لم يعتليه وقام بالنزول على السلم .. تتفقد السلم ولم تجده ايضًا .. تعود سريعًا وتتجه لشرفتها وتنظر منها نحو الشارع لتجده يمضى بمفرده في شارع خالً من الماره .. فكرت في المنادة عليه في تردد منها .. ولمجرد أن استدارت بوجهها للناحيه الأخرى مُفكره لثانية واحدة فقط كان قد الرجل قد تبخر من الشارع تماما كما لو كان طيفا أو دخاناً " أو شبحً " بينما هى تتساءل في دهشة هل هو مضى فجأة بخطوات سريعة لذلك أختفى ؟ أم ماذا ؟! وهل سيعود مجدداً ؟
تتجاوز الأمر وتعود لغرفتها و لا تزال غارقة في أفكارها، سمعت صوت المفتاح في الباب.. فزعت، لكن سرعان ما ارتخت عضلاتها حين رأت والدها يدخل. كان يبدو منهكًا، يحمل حقيبته الطبية على كتفه. ابتسم لها رغم التعب وقال:
– مساء الخير يا ريحانة. ساهرة حتى الآن؟
أجابت بصوت خافت وهي تحاول إخفاء ارتباكها:
– نعم… لم أنم بعد.. هل أحضر لك العشاء؟
لوّح بيده وهو يتثاءب:
– لا يا حبيبتي، أكلت في العيادة.. كان يوم طويل جدًا.. سأخلد للنوم فورًا.
تابع خطواته نحو غرفته، لكنها نادته فجأة:
– أبي…
التفت إليها بنصف ابتسامة:
– نعم؟
ترددت، ثم هزت رأسها وقالت:
– لا شيء… تصبح على خير.
اختفى داخل غرفته وأغلق الباب.. جلست هي وحدها، تحدّق في الغلاف الأسود على الطاولة أمامها.. كلمات عزت الدمنهوري تتردد في ذهنها: حين يبدأ الآخرون في طرق بابك…
مدّت يدها لتغلق الكتاب، لكن فجأة انطفأ المصباح للحظة ثم عاد يضيء. حين نظرت إلى الصفحة المفتوحة، وجدت جملة جديدة لم تكن هناك قبل قليل:
"لم يعد هناك وقت ياريحانة "
لم يعد لديك وقت طويل يا ريحانة .. غصصتُ وهي تسحب يدها بعيدًا.. كانت تعرف أن حياتها لم تعد كما كانت قبل أن تدخل ذلك الدكان الغامض.. الآن، لم يعد الكتاب مجرد رواية، بل بابًا مفتوحًا على لعنة أوسع مما تتخيل.
ورغم خوفها، لم تستطع مقاومة إغراء الحقيقة. أمسكت الكتاب من جديد، وعرفت أن رحلتها لم تبدأ بعد.
لم تستطع ريحانة أن تغمض عينيها تلك الليلة.. كلما حاولت النوم، كانت الكوابيس تقتحم رأسها.. رأت نفسها تمشي بين صفوف طويلة من العرائس بثياب بيضاء، وجوههن مطموسة كأنها أقنعة من الضباب. واحدة منهن رفعت يدها لتشير إليها، ثم سقطت فجأة أرضًا والدم يتفجر من صدرها.
استيقظت ريحانة وهي تصرخ، وقطرات العرق تغرق جبينها. نظرت حولها بارتباك، فإذا بالكتاب ما زال مفتوحًا على الطاولة بجوار سريرها... الغريب أن الصفحة التي تُركت مفتوحة لم تكن بيضاء، بل كُتب فيها بخط أسود متعرّج:
"لقد رأيتِ ما سيحدث… ما لم تفعلي شيئًا."
ارتعشت أصابعها وهي تغلق الكتاب بعنف وتخبئه أسفل الوسادة، كأن إخفاءه سيجعل الشر يختفي. لكنها كانت تدرك أن الأمر أكبر من ذلك.
في الصباح، حاولت أن تبدو طبيعية أمام والدها.. جلست معه على المائدة، تراقب وجهه المتعب وهو يحتسي قهوته بسرعة قبل أن يخرج إلى العيادة.. كانت تفكر أن تبوح له بما يحدث، أن تحكي عن الكتاب والكوابيس والرجل الغامض، لكنها خافت أن يتهمها بالخيال أو الهوس. فاكتفت بالصمت.
بعد أن غادر، قررت أن تتمشى قليلًا.. الهواء البارد على الكورنيش ربما يساعدها على تصفية ذهنها.. لكن ما إن خرجت من باب العمارة حتى شعرت أن عيونًا تراقبها.. التفتت خلفها فلم تجد أحدًا، ومع ذلك ظلّت خطواتها ثقيلة، كأن ظلًا يتبعها.
حين بلغت السوق، اقترب منها رجل قصير بدين، له لحية غير مرتبة وعينان تقدحان شرًا.. وقف في طريقها مباشرة، وقال بصوت خافت لكنه مليء بالتهديد:
– الكتاب… أعطيني إياه.
تراجعت إلى الوراء بخوف:
– أي كتاب؟
قهقه بصوت أجش:
– لا تتظاهري بالجهل. نحن نعرف أنه عندك. أعيديه لنا قبل أن تصيبك لعنة العروس.
ثم انحنى قليلًا وهمس:
– أنت لست أقوى من الموت يا صغيرة.
ارتجفت، واندفعت تجري بين الزحام حتى بلغت العمارة، أغلقت الباب خلفها وهي تلهث، لكنها لم تهدأ. الكلمات التي قالها الرجل كانت كالخنجر في صدرها: لعنة العروس.
وقفت فجأة لتلتفت للوراء وإذ بالرجل البدين قد أختفى تماماً .. تتفقد المارة باحثة عنه لكنه اختفى .. نعم أختفى وكأنه شبح .. غريبة .. أين هو ؟ أين ذهب ؟ أنه رجل بدين جداً ولم يستطع التنقل بسهوله كي يختفي بهذه السرعة ؟!
قررت أن تذهب إلى المكتبة التي قد أشترت منها الكتاب إذ ربما تفهم شيئاً من صاحب المكتبة عن هذا الكتاب وإذ بالمفاجأة تحدث " المكتبه مغلقه بإحكام ومهجورة منذ زمنً بعيد " وحين سألت أحد المارة قال لها أن المكتبه مغلقة منذ ثلاثون عاما من وقت ما توفى صاحبها ولم تُفتح بعد !
ليلة ذلك اليوم، تسلل إليها النوم بصعوبة، لكن ما لبث أن انقلب إلى كابوس آخر.. رأت نفسها في قاعة زفاف كبيرة مضاءة بالشموع.. جلست العرائس في صفوف، وعروس وحيدة بلا وجه تقدمت نحوها، ثوبها الأبيض ملوّث ببقع دماء.. مدت يدها إليها وقالت بصوت أجوف:
– أنقذيني… وإلا متّ كما متّ أنا.
صرخت ريحانة واستيقظت فزعة، لتجد النافذة مفتوحة رغم أنها أغلقتها بإحكام.. الريح الباردة تعصف بالستائر، وعلى الطاولة كان الكتاب مفتوحًا على صفحة جديدة، كُتب فيها بحروف حمراء:
"لكي تفكي اللعنة… عليك أن تدفعي الثمن."
في اليوم التالي، جلست في السوق بجوار امرأة مسنة تُدعى أم فؤاد، تبيع الخبز. همست لها:
– يا خالة… ما قصة لعنة العرائس؟
ارتجفت العجوز، وأسقطت قطعة خبز من يدها، ثم قالت بصوت مرتعش:
– لا تسألي يا ابنتي. كلنا نعرف. بناتنا محكومات بالموت ليلة زفافهن. الشيخ الغرياني وحده كان يحمينا بكتابه… لكنه مات، وضاع الكتاب معه. ومنذ ذلك الحين لم يعد أحد يجرؤ على إقامة عرس.
صمتت قليلًا ثم أضافت وهي تنظر إليها بعينين متوجستين:
– قيل إن الكتاب سيعود يومًا ما… لكنه لا يعود إلا ليوقظ الشر.
تركتها ريحانة وهي تشعر أن الأرض تهتز تحت قدميها. لم تعد تعرف ماذا تصدق. هل الكتاب لعنة؟ أم فرصة لإنقاذ الفتيات؟
وفي تلك الليلة، بينما كانت تجلس في الصالة، عاد الرجل الطويل الذي طرق بابها من قبل. لم يطرق هذه المرة، بل وقف عند العتبة، وعيناه تلمعان تحت ضوء المصباح الخارجي. قال:
– آنستي… اسمي مصطفى الكرمي. أنا واحد من "حماة السر".
ارتبكت وهي تفتح له نصف الباب:
– من أنتم؟
قال بهدوء:
– نحن جماعة قديمة، ورثنا العهد منذ زمن الشيخ الغرياني. نحمي الكتاب ونمنع سقوطه في الأيدي الخطأ. لكنك للأسف أمسكتِ به قبْلنا… والآن أنتِ في خطر.
سألته بخوف:
– ولماذا لا تأخذونه أنتم؟
ابتسم ابتسامة حزينة:
– لأن الكتاب اختاركِ أنتِ. هو لا يستجيب إلا لصاحبه الجديد. لكن اعلمي أن آخرين سيأتون. بعضهم يريد حماية الفتيات، وبعضهم يريد التعاويذ ليملك القوة.
شعرت ريحانة بدوار وهي تهمس:
– ومن أنت بالضبط؟ في أي جانب تقف؟
اقترب قليلًا وقال بصوت خافت:
– في الجانب الذي يحاول إنقاذ العرائس… لكن القرار ليس لي وحدي. القرار لكِ أنتِ.
ثم استدار وغادر في الظلام، تاركًا وراءه أسئلة لا نهاية لها.
أغلقت الباب بارتجاف، ثم جلست تحدق في الكتاب. الآن أيقنت أن حياتها تحولت إلى ساحة مطاردة بين قوتين: واحدة تريد الخير، وأخرى تريد القوة.
وحين رفعت الغلاف، وجدت رسالة جديدة مكتوبة في الصفحة الأولى بخط دموي:
"حين يكتمل القمر… سيُحسم مصيرك يا ريحانة."
نظرت من النافذة، فرأت القمر بدرًا يطلّ على بحر لوران، مغطى بسحب رمادية، والريح تصرخ كأنها إنذار بالعاصفة القادمة.
أما في الظل، فقد بدا لها للحظة أن عروسًا بلا وجه تقف على الشاطئ البعيد، ثوبها الأبيض يتطاير مع الريح، تنتظرها.
الليل كان ساكنًا بشكل غريب، كأن الحيّ كله يحبس أنفاسه. القمر مكتمل يعلو السماء، ضوءه الفضي يغسل جدران البيوت العتيقة في حي لوران.. ريحانة جلست وحدها في غرفتها، والكتاب الأسود مفتوح أمامها، صفحاته تقلبها الرياح وحدها دون أن تلمسه. الكلمات على الورق لم تعد ساكنة.. كانت تتحرك كأنها ديدان تتلوى، ثم تستقر لتكوّن جملة واحدة:
"كل عروسٍ لا تُفدى بالدم… تُفدى بالحيّ بأكمله."
قشعريرة اجتاحت جسدها. سمعت صرير باب البيت، ودخل والدها منهكًا من عيادته، عيناه مثقلتان بالسهر. ألقى معطفه جانبًا، ثم لمح ارتباكها وهي تُغلق الكتاب على عجل.
اقترب منها وقال بصوت مبحوح:
– "ما بكِ يا ريحانة؟ لِمَ ترتجفين هكذا؟"
ترددت لحظة، ثم جلست وأخبرته بصوت متقطع تملؤه الرهبة بما رأت في صفحات الكتاب، والأشخاص الذين حاولوا التحدث معها ... أصغى إليها مذهولًا، يزداد القلق في ملامحه كلما مضت في حديثها.
أمسك يدها وقال بجدية:
– "دعيكِ من هذا الكتاب يا ابنتي، الأفضل أن نقوم بحرقه . أعطني أياه لأحرقه بنفسي حالا "
اغرورقت عيناها بالدموع وهمست:
– "أبي… المصائب قد بدأت بالفعل… نحن محاصرون."
قبل أن يكمل كلامه، اهتز البيت كله. النوافذ ارتطمت بقوة، والزجاج تحطم وتناثر على الأرض. النار اندلعت في الشارع فجأة، كأن الأرض نفسها انشقت وأخرجت لهيبها.
خرج الأب و ريحانة مسرعين، وإذا بالحي يغلي بالفوضى:
-
بيت عند الزاوية اشتعل من داخله بلا سبب.
-
صرخات النساء تتعالى من كل مكان.
-
الأطفال يركضون حفاةً، وجوههم ملطخة بالسواد .
وسط هذا الخراب، ظهرت العروس الملعونة. ثوبها الأبيض صار له بريق ناري، ودماء قديمة تغطيه. وجهها ما زال بلا ملامح، لكنه كان يضيء بضوء أحمر كجمر مشتعل.. كلما رفعت يدها، اشتعل بيت جديد، وكلما خطت خطوة، انهار جدار أو سقف.
تجمّع أهل الحي مذعورين، بعضهم يرشقها بالحجارة، لكن الحجارة تذوب قبل أن تصل إليها. آخرون يقرأون آيات بصوت مرتجف، لكن أصواتهم تتلاشى وسط عواء الريح.
من الأزقة، ظهرت جماعة "حماة السر".. مصطفى الكرمي في المقدمة، سيف قصير في يده، عيناه مشتعلة بالتصميم. خلفه رجال يحملون مشاعل وخناجر، وآخرون يتمتمون بتعاويذ.. قال مصطفى بصوت عالٍ:
– "الليلة يا أهل لوران، إما نحرر الحي أو نموت فيه!"
لكن الرجل البدين – الذي سبق وهدد ريحانة – ضحك ضحكة وحشية وقال:
– "أحرره؟ لا… هنملكه! الكتاب هيخلينا سادة على العروس وعلى الحي!"
اندفع البدين نحو ريحانة محاولًا انتزاع الكتاب من يدها.. الأب اعترض طريقه، فدفعه أرضًا بقسوة.. بينما مصطفى لم يتردد، غرس خنجره في صدر الرجل البدين.. الدم اندفع كنافورة، لكنه لم يسقط ميتًا فورًا ، بل ابتسم وفمه ينزف وهو يقول:
– "بالدم… النار تكمل طريقها."
وبالفعل، اشتعلت ألسنة لهب أعلى، كأن دمه كان وقودًا للعنة.. البيوت توهجت كأفران، والنيران التهمت السقف تلو الآخر.
الأب جرّ ريحانة بعيدًا وهو يصرخ:
– "ارمي الكتاب يا بنتي! الكتاب ده اللي بيشعلهم!"
لكنها تمسكت به أكثر، عيناها تلمعان بالدموع والرعب:
– "لو رميته مش هيخلص… لازم نواجهها."
تقدمت بخطوات ثابتة رغم أن النار تلسع قدميها.. صارت على بُعد أمتار من العروس.. حينها انفتح الكتاب وحده، وظهرت دائرة سحرية مرسومة بالدم، وحروف غامقة تتوهج. سمعت في رأسها صوتًا أنثويًا مشروخًا:
"اقرئي… افتحي البوابة… لكن تذكري، الثمن حياتك."
بدأت ريحانة تردد الكلمات، وكل كلمة تهز الأرض.. السماء اسودّت، والقمر صار محاطًا بهالة حمراء.. العروس الملعونة صرخت صرخة اخترقت الآذان، جسدها بدأ يتشقق، والنيران تلتهم ثوبها الأبيض.
لكن مع كل صرخة من العروس، جسد ريحانة يهتز ويشتعل. شعرها بدأ يحترق، جلدها يتشقق. الأب اندفع نحوها ليمنعها، لكن قوة غامضة رمت به بعيدًا، اصطدم بجدار وسقط فاقدًا وعيه.
مصطفى الكرمي رفع سيفه وركض ليساعدها، لكن دائرة من النار حاصرته. كل ما استطاع فعله هو الصراخ:
– "كمّلي يا ريحانة! التمن لازم يتدفع!"
انفجرت العروس في لهب هائل، شعلة بيضاء عظيمة أضاءت الحي كله. انفجار ناري دوّى كالرعد، والبيوت انهارت دفعة واحدة. الناس تصرخ، البعض يحترق حيًا، والبعض يُدفن تحت الركام.
وسط كل هذا الخراب، ظلت ريحانة واقفة داخل الدائرة السحرية، الكتاب بين يديها.. ألسنة اللهب ابتلعتها مع الكتاب، بينما العروس الملعونة تحولت إلى رماد يتطاير في الهواء.
لحظة صمت رهيب أعقبت الانفجار. ثم بدأ المطر يهطل بغزارة، يطفئ ما تبقى من نيران.. لكن المطر كان أسود، ممزوجًا بالرماد والدم.
مع أول خيوط الفجر، كان الحي قد انتهى.. بيوت محروقة، جدران متداعية، وجثث متفحمة ممددة في الطرقات. النساء ينوحن، الرجال يفتشون بين الركام.
الأب جلس على الأرض، وجهه أسود من الدخان، يحتضن حفنة رماد بين يديه، يظنها بقايا ابنته، وينوح:
– "ريـحانة… بنتي… "
مصطفى الكرمي وقف بعيدًا، عينيه مغمورتين بالدموع، يتمتم:
– "الكتاب اتحرق… واللعنة انطفأت… بس الشر… الشر عمره ما بينتهي."
لكن حين فتشوا بين الركام، وجدوا بقايا محترقة من صفحات الكتاب. وعلى إحدى الصفحات، كان هناك سطر لم يمسّه الحريق:
"من يقرأني… يوقظني من جديد."









0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً