المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري: رحلة زكي نجيب محمود من القطيعة إلى المصالحة
كيف أعاد الفيلسوف صياغة علاقتنا بالتراث بين نور العقل وظلال الأسطورة
في كتابه «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، يخوض زكي نجيب محمود واحدة من أهم مغامراته الفكرية، محاولاً أن يضع التراث العربي على طاولة العقل والنقد لا على منبر التقديس. فالتراث عنده ليس كتلة صمّاء تُعبد أو تُهدم، بل ميراث حيّ يمكن أن يكون منبعاً للنهضة إذا تعاملنا معه بعين العقل، أو عائقاً إن تركناه أسيراً للامعقول والخرافة.
ينطلق الكاتب من سؤالٍ طالما حيّر المثقفين العرب: كيف نتعامل مع تراثنا؟ بين من يدعو إلى هدمه كلياً باسم الحداثة، ومن يراه مقدساً لا يُمسّ، يأتي صوت زكي نجيب محمود وسطياً، لكنه ليس صوتاً باهتاً؛ إنه صوت العقل الناقد الذي يميّز بين ما يُبنى عليه وما يُتجاوز، بين الفكر الذي يُنير والعقيدة التي تُعطّل التفكير.
يرى المؤلف أن المعقول هو ما يستند إلى البرهان والمنطق، ويستطيع أن يتحاور مع روح العلم الحديث، بينما اللامعقول هو ما يقوم على الخرافة والتفسير الغيبي، دون أن يمتلك دليلاً أو وعياً نقدياً. لكنه، في الوقت ذاته، لا يلغيه كلياً؛ فاللامعقول عنده يظل جزءاً من الوجدان الجمعي، يغذّي الأدب والخيال، لا الفلسفة والعلم.
ومن خلال استعراضه لنماذج من التراث، يُبرز زكي نجيب محمود فكر المعتزلة بوصفه ذروة للعقلانية العربية، كما يشيد بإسهامات الفلاسفة المسلمين في المنطق واللغة، في مقابل نقده للنزعات الغيبية والتنجيمية التي كبّلت العقول في فترات لاحقة. وهنا تتضح تأثيرات الفلسفة الوضعية المنطقية التي تأثر بها، وإنْ قدّمها برؤية عربية تحافظ على الخصوصية الثقافية.
الكتاب في جوهره ليس مجرد دعوة لإصلاح الفكر، بل مشروع تصالح نقدي مع الذات الحضارية. فزكي نجيب محمود الذي دعا في بداياته إلى القطيعة مع التراث، يعود هنا ليعلن أن النهضة لا تقوم إلا على جذور راسخة تمتد في الماضي، شرط أن تُروى بعقلٍ مفتوح على الحاضر والمستقبل.
إنه نصّ يذكّرنا بأن التراث لا يُورث كما هو، بل يُعاد خلقه بالعقل والفكر، وأن الأمم التي لا تُمحّص ماضيها، تظلّ رهينة لأشباحه.
بذلك، يتحوّل «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» إلى دعوة دائمة للتفكير النقدي، وإلى شهادة فكرية على رحلة عقل عربي ظلّ يبحث عن ذاته بين ضوء المنطق وظلال الموروث.
تفكيك الرؤية: كيف أعاد زكي نجيب محمود تعريف العلاقة بين العقل والموروث؟
في كتابه «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، يخوض زكي نجيب محمود واحدة من أكثر مغامراته الفكرية نضجًا وتوازنًا، محاولًا أن يعيد تعريف علاقتنا بالتراث العربي على ضوء العقل النقدي. فالتراث، في نظره، ليس ماضٍ يُحنّ إليه ولا عبءٍ يُلقى خلف الظهر، بل كائن حيّ يتجدّد بقدر ما نعيد قراءته بعين واعية تفرّق بين ما يُبنى عليه وما يُجاوز.
التراث بين الهدم والتقديس
ينطلق محمود من أزمة الموقف من التراث، تلك الجدلية التي شغلت الفكر العربي الحديث: هل يكون التراث عائقًا أمام النهضة، أم هو مصدرها؟
في مواجهة تيارٍ يدعو إلى القطيعة مع الماضي بحجة التحديث، وآخر يرفعه إلى مصاف القداسة، يقف زكي نجيب محمود موقفًا ثالثًا، موقف الناقد العاقل. إنه لا يهدم ولا يقدّس، بل يفكك وينتقي.
ومن هنا تأتي أصالة فكره؛ فهو يطالب بعقلٍ عربي حديث لا ينفصل عن جذوره، بل ينقيها من شوائب اللامعقول ويعيد دمجها في مشروع حضاري معاصر.
مفهوم المعقول واللامعقول
يعمد الكاتب إلى وضع معيارين واضحين:
-
المعقول هو ما يخضع للبرهان والمنطق، ويستطيع أن يتفاعل مع روح العلم الحديث.
-
اللامعقول هو ما يقوم على الأسطورة والتفسير الغيبي غير المؤيد بالدليل.
غير أن محمود لا يرفض اللامعقول كليةً؛ فهو يرى أن له مكانًا في وجدان الأمة وأدبها وفنونها، لكنه لا ينبغي أن يتحكم في تفكيرها العلمي أو توجّهها الحضاري. بهذا التمييز الدقيق، يفتح الباب أمام قراءة جديدة للتراث، لا تُقصي العاطفة، لكنها تضعها في موضعها الطبيعي إلى جانب العقل لا فوقه.
أمثلة ونماذج من التراث
يقدّم المؤلف نماذج حيّة من الفكر العربي والإسلامي ليجسّد رؤيته:
فكتابات المعتزلة تمثل عنده ذروة «المعقول»، لأنها احتفت بالعقل وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، بينما تُجسّد الأساطير والتفسيرات الغيبية وجه «اللامعقول» الذي عطّل التفكير العلمي.
يُبرز أيضًا دور الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن رشد في بناء منهج عقلي قادر على الحوار مع الفكر الغربي، ويقارنهم بالتيارات الصوفية التي، وإن أغنت التجربة الروحية، إلا أنها أحيانًا انسحبت من مواجهة الواقع بالعقل والمنطق.
زكي نجيب محمود وتحول الموقف الفكري
اللافت في هذا الكتاب هو التحوّل العميق في فكر زكي نجيب محمود نفسه.
فبعد أن تبنّى في شبابه دعوةً إلى القطيعة مع التراث متأثرًا بالوضعية المنطقية الغربية، يعود هنا ليصالح بين العقل والموروث. يدرك أن التحديث الحقيقي لا يعني الاستلاب، بل إعادة بناء الذات من داخلها.
إنه لا يتراجع عن إيمانه بالعقل، لكنه يكتشف أن العقل العربي لا يمكن أن يثمر إلا إذا وُضع في تربة تراثه، شرط أن تُنقّى هذه التربة من شوائب الأسطورة والخرافة.
تحليل نقدي
يمكن القول إن «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» يمثّل نقطة توازن نادرة في الفكر العربي بين نزعة التنوير والعقلانية من جهة، والوعي بالهوية الثقافية من جهة أخرى.
زكي نجيب محمود لا يكتب كمجرّد فيلسوف، بل كـ مصلح فكري يسعى لتأسيس وعي عربي جديد، يدرك أن النهضة لا تولد من محاكاة الغرب، بل من مصالحة الذات مع عقلها وتاريخها.
تحليله للتراث يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة الإشكال الحضاري العربي:
نحن لا نفتقد إلى العقل، بل نفتقد إلى الجرأة في استخدامه داخل حدود ثقافتنا نفسها.
كما يُحسب له أنه لم يكتف بالنقد النظري، بل قدّم منهجًا عمليًا: التمييز بين ما يُستخدم وما يُحفظ. المعقول يُفعّل في بناء العلم والفكر، واللامعقول يُحتفظ به كجزء من المخيلة الجمعية التي تغذّي الإبداع.
الرؤية
إنّ هذا الكتاب ليس مجرد دراسة للتراث، بل بيان فلسفي لمستقبل العقل العربي.
يدعو زكي نجيب محمود إلى عقلٍ عربيٍّ متوازن، يملك القدرة على النقد دون إنكار، وعلى الإبداع دون انفصال عن الجذور.
ومن هنا تأتي قيمة الكتاب اليوم، في زمنٍ يعاد فيه طرح الأسئلة نفسها حول الهوية والحداثة والعقل والدين.
إنه صوت يدعونا إلى إحياء التراث بالعقل لا بالعاطفة، وإلى أن نختار من الماضي ما يُضيء طريق المستقبل، لا ما يثقله بالظلال.



0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً