كتابة السيناريو الإذاعي – دراما تُسمع ولا تُرى
بقلم : محمد عبدالرحمن حسن
إنّ الدراما الإذاعية هي الفنّ الذي يكتب بالسمع ويُرسم بالخيال. هي التجربة التي تقوم على الصوت وحده لتُنشئ أمام المستمع عوالم كاملة من الصور والأماكن والانفعالات، دون أن يراها بعينه. ومن هنا تأتي عظمتها وصعوبتها معًا؛ فكاتب السيناريو الإذاعي لا يمتلك الكاميرا ولا الضوء ولا المشهد البصري، بل يعتمد على قوة الكلمة، ونغمة الصوت، وإيحاء المؤثرات السمعية ليصنع للمستمع فيلمًا عقليًا كامل الملامح.
الدراما الإذاعية ليست بديلًا فقيرًا عن السينما أو التلفزيون، بل هي فن قائم بذاته له قواعده الجمالية الخاصة. فبينما تعتمد الصورة المرئية على التكوين والإضاءة، تعتمد الدراما المسموعة على الإيقاع اللفظي، والتدرج الصوتي، والتناغم بين الحوار والموسيقى والمؤثرات. وكل عنصر من هذه العناصر يقوم مقام “الصورة” التي يراها المتلقي في ذهنه. لذلك يُقال إن “الدراما الإذاعية تُشاهد بالأذن”، لأنها تحفّز خيال المستمع ليُكمل المشهد بطريقته الخاصة، وهو ما يجعلها تجربة فنية فريدة من نوعها.
إن أول ما يجب أن يدركه الكاتب الإذاعي أن الوسيط السمعي يفرض اقتصادًا شديدًا في اللغة، فكل كلمة لها وزن ودلالة، وكل جملة يجب أن تحمل وظيفة درامية محددة. في السينما يمكن للمخرج أن يملأ الصمت بحركة كاميرا أو نظرة، أما في الإذاعة فإن الصمت نفسه يصبح جزءًا من اللغة. لذلك لا يُكتب الصمت عبثًا، بل يُوظَّف ليُعبّر عن توتر أو انتظار أو خوف. والكاتب الماهر هو من يُحسن إدارة هذا “الصوت الخفي”، فيجعل من السكون لغة ناطقة.
ولأن الإذاعة لا تتيح للمستمع أن يرى المكان أو الوجوه، فعلى الكاتب أن يُعرّف المكان والشخصيات بطريقة غير مباشرة من خلال الحوار أو المؤثرات. فلا يجوز أن يقول الراوي مثلًا: “نحن الآن في مقهى مزدحم”، بل ينبغي أن يُسمع صوت أكواب تُوضع على الطاولة، وضجيج خافت لأحاديث متداخلة، وصوت موسيقى خفيفة في الخلفية، ثم يدخل أحد الشخصيات ليقول: “أعطني فنجان القهوة المعتاد يا عم حسن”. عندها يدرك المستمع وحده أننا في مقهى دون أن يُقال ذلك صراحة. هذه هي براعة “الكتابة السمعية” التي تزرع المشهد في ذهن المتلقي دون تقرير مباشر.
يُعد التصوير الصوتي (Sound Imaging) من أهم عناصر السيناريو الإذاعي، وهو فن استخدام المؤثرات الصوتية والموسيقى لخلق الجو العام للمشهد. فصوت الرياح والعصافير يخلق إحساس الفجر، ووقع الأقدام فوق الحصى يوحي بالمسافة والاتجاه، وصفارة القطار تُعلن الانتقال الزمني أو المكاني. وتُستخدم هذه الأصوات بدقة متناهية لتعويض غياب الصورة، بحيث يصبح السمع هو الحاسة الأساسية التي يتفاعل بها الجمهور مع العمل.
ويتميز السيناريو الإذاعي أيضًا بوجود الراوي أو الصوت الخارجي (Narrator)، وهو أداة أساسية تُستخدم لتوجيه المستمع وإعطائه معلومات لا يمكن نقلها بالحوار وحده. غير أن الإفراط في استخدام الراوي يُضعف النص ويجعله أقرب إلى الحكاية القصصية منه إلى الدراما. لذا يجب أن يكون الراوي “عينًا داخل الحدث”، لا مجرد مفسّرٍ للأحداث. والأفضل أن يُدمج صوته ضمن النسيج الدرامي، فيبدو كأحد الشخصيات أو كصوتٍ ضميريّ يعبّر عن أعماق البطل.
أمّا بناء المشهد في السيناريو الإذاعي، فيقوم على ثلاث ركائز: الحوار، والمؤثرات، والموسيقى. الحوار ينقل الحدث، والمؤثرات تُحدّد الزمان والمكان، والموسيقى تُعبّر عن الإحساس. ويجب أن يتكامل الثلاثة دون أن يطغى أحدها على الآخر. فالموسيقى مثل الإضاءة في السينما، إذا زادت طغت على الأداء، وإذا غابت انطفأ المشهد. والمؤثرات الصوتية هي بمثابة الديكور والإكسسوار، تضع المستمع داخل البيئة المناسبة دون أن تحتاج لوصفها بالكلمات.
أما عن الشخصيات في السيناريو الإذاعي، فهي تُبنى بالصوت لا بالصورة. أي أن ملامحها تُستشف من نبرة صوتها وطريقة نطقها ومفرداتها. لذلك يجب أن يحرص الكاتب على أن يختلف أسلوب كل شخصية عن الأخرى بوضوح، بحيث يتعرّف المستمع على المتحدث حتى لو لم يُذكر اسمه. فالمرأة الريفية تختلف لغتها عن الفتاة الجامعية، والعامل يختلف في إيقاع كلماته عن الطبيب أو السياسي. والكاتب المتمكن هو من يستطيع أن يخلق هذا التمايز السمعي من خلال الحوار وحده.
ويجب أن يُراعى أيضًا الإيقاع العام للحلقة، فالإذاعة تعتمد على الزمن القصير والتركيز العالي. فالمستمع يتلقى العمل أثناء القيادة أو العمل أو الجلوس في المقهى، ولا يمكنه التفرغ الكامل كما يفعل مشاهد السينما. لذا يجب أن يكون النص مشوّقًا، سريع الحركة، خاليًا من الترهل اللفظي أو المشاهد المكررة. المشهد الإذاعي الناجح هو الذي يُقدّم المعلومة أو الحدث في أقل عدد من الجمل الممكنة، دون أن يفقد غناه أو تأثيره.
ومن الخصائص التقنية المهمة في كتابة السيناريو الإذاعي ما يُعرف بـ “الانتقال السمعي” (Audio Transition)، وهو الوسيلة التي ينتقل بها الكاتب من مشهد إلى آخر دون استخدام الصورة. يمكن أن يتم هذا الانتقال عبر مؤثر صوتي، كصوت باب يُغلق في نهاية مشهد ثم يُفتح في مشهد جديد، أو عبر الموسيقى التي تتغير تدريجيًا لتدل على تبدّل الزمان أو المكان، أو حتى عبر الراوي الذي يقول جملة مثل: “وبعد ساعات قليلة، في منزل العم حسان…” فتنتقل أذن المستمع تلقائيًا إلى المشهد الجديد دون ارتباك.
ولا تقل الدراما الإذاعية التسجيلية أهمية عن الدراما الخيالية، إذ تُستخدم كثيرًا في البرامج الوثائقية والسردية التي تمزج بين الوقائع الحقيقية والتمثيل الصوتي. في هذا النوع يكون على الكاتب أن يحافظ على الصدق الواقعي مع استخدام أدوات الفن لإضفاء الحيوية على الأحداث. وهي مدرسة راقية جدًا من الكتابة تعتمد على البحث الميداني والدقة في التوثيق إلى جانب الحسّ الدرامي.
ومن أبرز الأخطاء الشائعة في كتابة السيناريو الإذاعي أن يُغرق الكاتب في الوصف اللفظي المبالغ فيه، فيحوّل الحوار إلى تقرير أو حكاية أدبية. كما يقع بعض الكتّاب في خطأ “إخبار المستمع بما يسمعه”، كأن يقول الممثل: “ها هو صوت الرعد يقترب!” بينما يسمع المستمع الرعد فعلاً، فيصبح الحوار عبثيًا. والقاعدة الذهبية في الكتابة الإذاعية هي: دع الأذن تكتشف بنفسها، ولا تُخبرها بما تعرفه بالفعل.
من جهة أخرى، فإن الموسيقى التصويرية في الإذاعة ليست مجرد خلفية عاطفية، بل هي عنصر سردي فاعل، تُستخدم لتحديد الحالة النفسية للشخصية، أو للدلالة على الانتقال الزمني، أو للتعبير عن المفارقة بين الحدث والمشاعر. ويجب أن تُختار بعناية كي لا تطغى على الحوار، وأن يُراعى طول المقطوعة وتوزيعها داخل النص بحيث تخلق تناغمًا سمعيًا ممتعًا.
إن كتابة السيناريو الإذاعي تُعلّم الكاتب الاقتصاد والتكثيف والانتباه للتفاصيل، لأنها لا تسمح بالزخرفة اللفظية أو الإطالة غير المبررة. وهي في الوقت ذاته تُعيد الكاتب إلى جوهر الدراما الأولى، حيث كان الراوي والمستمع وحدهما محور التجربة الفنية. فالإذاعة تُعيدنا إلى أصل الحكاية، إلى فن “القول” الذي سحر الإنسان منذ المجالس القديمة وحتى المذياع الحديث.
ختامًا، يمكن القول إن السيناريو الإذاعي هو اختبار لقدرة الكاتب على تحريك الخيال بالصوت وحده. إنه المدرسة التي تُنضج حسّه الدرامي، وتُدربه على بناء المشهد بالحوار والإيقاع والفراغ السمعي. وكل من يتقن هذا الفن يصبح أقدر على كتابة السينما والتلفزيون، لأن من يُجيد الإيحاء بالصوت يستطيع أن يُبدع بالصورة. فالإذاعة هي مختبر الخيال الأول، وصوتها العابر للأزمان يظل شاهدًا على أن الدراما الحقيقية لا تحتاج إلى شاشة، بل إلى أذن تصغي وقلب يتخيل.


0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً