صَـعُـودٌ لا يُشبه هذا العالَـم
منذ خمسة أشهر، استقبلت الدكتورة سَلْمى في غرفة الطوارئ فتاةً شابة تعرّضت لحادثٍ مأساوي، جسدها محطم ووعتها متذبذب بين الحياة والموت. كانت الفتاة في حالة حرجة، والطبيب والممرضة يراقبون كل نبضة قلب وكل شهيق وزفير، بينما كانت سَلْمى تحاول تهدئتها بكلمات دافئة، محاولةً أن تمنحها شعورًا بالأمان في تلك اللحظات العصيبة.
في إحدى لحظات الإفاقة النادرة، رفعت الفتاة عينيها نحو سَلْمى، وهامست بصوتٍ مرتعش: «انتَبهي لأمّي… ليس لها أحدٌ غيري».
كانت الجملة قصيرة، لكنها حفرت في قلب الطبيبة أثرًا لا يُمحى، شعورٌ غريب بالمسؤولية والمخاوف التي لم تعرف لها سببًا واضحًا. وبعد ساعات قليلة، فارقت الفتاة الحياة، تاركة وراءها صمتًا ثقيلًا وحيرة لا تنتهي.
ومضت الأيام، لكن القصة لم تنتهِ.
منذ أسبوعٍ واحد، بدأت سَلْمى ترى الفتاة في أحلامها، تظهر لها وكأنها تحاول نقل رسالة عاجلة. كانت الفتاة تبكي بشدة، تمسك بيد سَلْمى، وتصعد بها سلماً طويلاً داخل بيت مظلم، حتى يصل الاثنان أمام باب شقة مغلق، حيث الرائحة الخانقة تؤذي أنف سَلْمى وتجعلها تستيقظ فجأة.
تكرّر الحلم ثلاث ليالٍ متتالية، بنفس السلم، بنفس الباب، ونفس الرائحة. كل ليلة، كانت سَلْمى تستيقظ مرهقة، قلبها ينبض بعنف، وعقلها يتشبث بكل التفاصيل الصغيرة التي رأتها في الحلم. بدأت تدرك أن الأمر لم يعد مجرد كابوس، بل تحذيرًا غامضًا يستدعي البحث والتقصي.
استعادت سَلْمى بيانات الفتاة من الأرشيف، واستخرجت عنوانها، وقررت أن تذهب بنفسها إلى المنزل. كانت المنطقة شبه خالية، والبيوت متباعدة كأنها جزر من الصمت. كل خطوة كانت تملأ قلبها توترًا، وكل نسيم يمرّ يثير شعورًا غريبًا بالخوف.
عندما وصلت أمام البيت القديم المكوّن من طابقين، شعرت برغبة في الرجوع، لكن فجأة، سمعت البكاء ذاته في أذنها، قويًا وموجعًا، يزلزل الأعصاب. ارتجفت، ثم دفعت الباب الخشبي بحذر.
البيت من الداخل كان صامتًا، لكن السلم كان تمامًا كما رأته في الحلم: نفس الدرجات، نفس الدرابزين، نفس كل شيء. ارتعشت سَلْمى، ومع ذلك صعدت ببطء، تحاول أن تسيطر على خوفها، وكل خطوة كانت تصدح بصدى أقدامها في أرجاء البيت المظلم.
وصلت إلى الطابق الثاني، وها هو الباب، نفس المقبض، نفس الخشب القديم، ونفس الرائحة الخانقة التي أحست بها في الحلم. شعرت برعشة قوية تسري في جسدها، لكنها لم تتراجع.
بينما كانت تتفقد الغرفة حول الباب، لاحظت وجود دفتر صغير مخبأ خلف لوحة على الحائط. فتحته بيد مرتعشة، ووجدت أنه يوميات الفتاة قبل الحادث. الصفحات كانت مليئة بالرسائل إلى والدتها، لكنها لم تكن مجرد رسائل عادية، بل كانت تحوي رموزًا غريبة وأسماء أشخاص لم تذكرهم أي سجلات، وأحداثًا مريبة عن وجود شخص آخر في البيت يراقبها منذ سنوات.
كل صفحة كانت تزيد شعورها بالرعب والارتباك. لاحظت أن الفتاة كانت تشعر بالخوف من شخص مجهول، وأن موتها لم يكن حادثًا عاديًا بالكامل. الدفتر كشف لها أن الحلم لم يكن مجرد تحذير، بل محاولة الفتاة لإرشاد الطبيبة إلى اكتشاف حقيقة مخفية في بيت والدتها.
هرعت إلى الأسفل واتصلت بالشرطة، والتي وصلت سريعًا إلى الموقع. عند دخولهم الشقة، عثروا على أم الفتاة ميّتة منذ أيام، موتًا طبيعيًا، وحيدة، بلا أحد. كان المشهد صامتًا وموحشًا، تمامًا كما تنبأت الابنة قبل وفاتها.
بعد نقل الجثة وانتهاء التحقيقات، عادت سَلْمى إلى بيتها ليلًا منهكة الروح، محملة بشعور عميق بالرهبة والارتباط الغريب بالفتاة، ومع إحساس غامض بأن ما اكتشفته كان جزءًا صغيرًا فقط من سر أكبر.
وفي نومها، ظهرت الفتاة من جديد، لكنها لم تكن تبكي هذه المرة. كانت هادئة، اقتربت من يد سَلْمى، قبّلتها، ثم ابتسمت واختفت. ومنذ تلك الليلة، لم تعد، تاركة وراءها صمتًا يملأ القلب، وشعورًا غامضًا بأن الرسالة قد وصلت أخيرًا، وأن كل شيء قد اكتمل، لكن ظل الغموض حول الأشخاص الذين ذكرتهم في دفتر يومياتها بقي حياً في ذهن سَلْمى.

0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً