وقفة لُغوية 📚
بقلم : أ/هاني سمير بركات
"مُتحف" و"مَتحف": جدلية الذوق والقاعدة الصرفية 🏛️
يُعدّ الجدل الدائر حول النطق الصحيح لكلمة "مُتحف" بضم الميم أو "مَتحف" بفتحها، إحدى التجليات العميقة للصراع الأزلي بين جمود القاعدة وسلاسة الذوق اللغوي، وهو صراع تتشابك فيه أصول الاشتقاق العتيقة مع متطلبات الاستعمال المعاصر.
أولاً 🖋️:
يذهب الرأي المستنكِر لكلمة "مُتحف" بضم الميم، رغم صحتها اللغوية من حيث القاعدة الصرفية والاشتقاقية — فهي اسم مكان على وزن "مُفعل" للفعل الرباعي "أتحف" — إلى أنها تحمل ثقلاً على اللسان يُنبئ عن شيء من الوعكة اللغوية، ويُساهم في نَسْج صورةٍ غير محببة للغة العربية، داعياً إلى "استفتاء القلب" الذي يأبى النطق بها.وينبع هذا الاستنكار من أساس منطقي؛ حيث أصل الكلمة ووظيفتها تشير إلى موضع "التُحف"؛ أي المكان الذي تُجمع فيه النفائس وتُعرض، لا مكان "الإتحاف" الذي تُعطى فيه وتُمنح، فالوظيفة المنشودة هي الاحتواء لا الإهداء.
لكن الاشتقاق الصرفي 📜:
بوجوب ضم الميم واعتبارها اسم مكان على وزن "مُفعَل" من الفعل الرباعي "أَتحَفَ" كما ذكرتُ سابقاً، يُوقع الكلمة في مأزق المعنى، لأن الفعل الرباعي يدل على الإهداء والعطاء، وهو ما لا يتفق مع حقيقة دور الآثار.وقد وجه الدكتور محمد كامل حسين عضو المجمع اللغوي نقداً لاذعاً لكلمة "مُتحف"، واصفًا إياها بأنها "سقيمة سيئة المبنى" ويُصوِّرها تصويرًا بليغًا بأنها:
"من العملة المزيفة التي ليس لها من العربية إلا مظهرها"، بخلاف الكلمات المهجورة التي هي "من ورق أهل الكهف، صحيحة ولكنها غير قابلة للتداول".
ويرى أن سلامة الكلمة هنا لا تتجاوز "انطباقها على قاعدةٍ صرفية" فحسب، دون أن تكون صحيحة من جهة الذوق اللغوي الذي يراه أدق من مجرد القواعد.
⚖️ موازنة الذوق والقاعدة: ندرة الاشتقاق من "أَفْعَل" المتعدي
ويشير إلى أن اشتقاق اسم المكان من الفعل الرباعي المتعدي (أَفْعَل) هو نادر جدًّا في العربية، وغالبًا ما يُشتق من الأفعال اللازمة أو من المعنى اللازم للفعل. ويضرب مثلاً بكلمة "المقام" التي تأتي من الفعل اللازم "أقام بالمكان"، لا من معنى الفعل المتعدي، مستنكرًا أن يسمى مكان الصلاة "مُقام الصلاة" رغم صحتها الصرفية.
ثانياً ✍️:
على الرغم من أن مجمع اللغة العربية قد أقرَّ استعمال "مُتحف" بضم الميم (اعتماداً على أنها اسم مكان من "أتحف") و "مَتحف" بفتحها (اشتقاقاً من الفعل الثلاثي "تَحَف" المأخوذ من كلمة "تُحفة")، إلا أن الدكتور محمد كامل ينتصر لـ "مَتحف" بفتح الميم باعتبارها "الكلمة العربية الصحيحة".ثالثاً 🏺:
ويُعلِّل ذلك بأن الحاجة هي الدافع الأساسي لإحداث اللغة وتطويرها، فكما اضطر العربي القديم إلى صياغات قد تبدو شاذة أو فاسدة مثل "المَأْسَدة" (اشتقاق اسم مكان من اسم جامد)، فوضع كلمة جديدة تدل على ما يريد ولم يعبأ باشتقاقها، وحاجته ليست أشد من حاجتنا الملِحَّة إلى كلمة تدل على "مكان تكثر فيه التحف"؛ لذلك، فإن "مَتحف" بفتح الميم تحقق الغرض المنشود وتنسجم مع سليقة الذوق التي تبحث عن البساطة والوضوح في الدلالة على موضع التُّحف.وازن مجمع اللغة العربية بالقاهرة بين القياس الصرفي الصارم والاستعمال الحديث الذي يميل إلى التسهيل وتحقيق الدلالة بوضوح.
🔹 وفي نهاية المطاف
قرار المجمع، كما ورد في "معجم الصواب اللغوي" وغيره من المصادر، هو إجازة الكلمة بالوجهين (مُتحف و مَتحف)، وبذلك يكون قد أقرَّ شرعية اللفظين اللذين يدلان على المكان الذي تُجمع فيه التحف.ويُعَدُّ إقرار "مَتحف" بفتح الميم انتصارًا للذوق اللغوي والشيوع في الاستعمال، الذي يرى في هذه الكلمة سهولةً ووضوحاً في الدلالة على موضع التُّحف، متجاوزًا التقييد المطلق بالقاعدة الصرفية التي قد تُحدث ثقلًا أو التباسًا في المعنى.
إذن اللفظان "مُتحف" و "مَتحف" صحيحان لغويًا وفقًا لإقرار مجمع اللغة العربية، وبذلك يزول التخوّف من تخطئة أحدهما، ويصبح المتحدث في سعة من أمره. ✅


0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً