قصص قصيرة من الأدب الأرجنتيني: اعترافات، ألغاز الشعر، والخيال الواقعي

قصص قصيرة من الأدب الأرجنتيني: اعترافات، ألغاز الشعر، والخيال الواقعي

الاعتراف

مانويل بيروو 

في ربيع عام 1232، بالقرب من قرية آفينيون، قام غونتران دي أورفي بقتل الكونت البغيض جيوفروي، زعيم القرية، بضربة من سيفه. سرعان ما اعترف غونتران بفعلته، قائلاً إنه فعل ذلك ردًّا على إهانة، إذ إن زوجته كانت قد خانته مع الكونت.

صدر الحكم بالإعدام شنقًا، وقبل عشر دقائق من تنفيذ الحكم، سمحوا لزوجته برؤيته في الزنزانة.

سألته زوجته:
لماذا كذبت؟ لماذا مرّغت شرفي في التراب؟

أجابها:
لأنني ضعيف. بهذا الشكل سيقطعون رأسي ببساطة. أمّا لو كنت قد اعترفت أنني قتلته لأنه طاغية، لكانوا عذّبوني أولًا.


الاختبار

راؤول براسكا

«فقط عندما تقطع جذع الشجرة بفأسك، ستحصل على ابنتي»، قال له الساحر.

نظر الحطّاب إلى جذع الشجرة النحيل، وابتسم بما فيه الكفاية. وهكذا رفع فأسه، ووجّه الضربة المخيفة الأولى.

لم تترك الضربة سوى أثر خفيف على جذع الشجرة. جاءت الضربة الثانية في المكان نفسه، لكنها بالكاد عمّقت الشق الأول. خيّم الليل على الحطّاب، فسقط منهكًا، واستراح حتى بزوغ الفجر، ثم تابع في اليوم الثاني.

كان الشق في جذع الشجرة يتعمّق يومًا بعد يوم، لكن الجذع كان يزداد ضخامة وسماكة. ومع مرور الوقت بدأ الجذع بالاخضرار، في حين راحت الفتاة تفقد جمالها وتكبر في العمر.

وبينما كان الحطّاب يواصل ضرباته، كان يرفع نظره إلى السماء. لم يعرف إن كان يناشدها لتُبعد الرياح والعواصف والبروق، وتمنع الآفات من نخر أحشاء الخشب. شابت الفتاة، وهو لا يزال يحاول قطع الجذع.

لم يعد يفكر فيها. شيئًا فشيئًا نسيها تمامًا. وفي اليوم الذي ماتت فيه الفتاة، لم يستغرب الأمر.

والآن، وقد أصبح عجوزًا، لا يزال يواصل معركته مع هذا الجذع الضخم، غير مفكّر في شيء سوى صمت الفأس… ذلك الصمت الذي يملؤه خوفًا.


ألغاز الشعر

أيوخينيو ماندريني

لم يكتب الشاعر إيزرا كاينسكي، المشهور برؤياه التي يسارع الواقع إلى محاكاتها دائمًا، منذ أشهرٍ عديدة سطرًا واحدًا، ولا حتى كلمة أو حرفًا. كان واقفًا أمام النافذة التي تطل على فناء بيته القديم، بانتظار مفاجأة ما: سقوط مقطع شعري ذي بعدٍ كوني؛ سقوط ورقة خريف يكسوها الثلج؛ أو سقوط قطرة عرق من الشمس.

أي، بالمحصلة، كان ينتظر شيئًا من تلك المظاهر المفاجئة التي عادةً ما تحدث معه وتفتح له الباب للدخول إلى مستنقع القصيدة. وأخيرًا رأى فيلًا ينظر إليه من فناء البيت.

كان الفيل رمادي اللون مائلًا إلى الأرجواني، وكانت بنيته ضخمة إلى حدٍّ بدا معه كأن ظله غطّى النافذة، بل والمنزل برمته. لا بدّ أن وزنه، قال لنفسه، أكثر من ثلاثة أطنان.

وقبل أن تختفي هذه الرؤيا غير الطبيعية فجأة كما ظهرت، أسرع الشاعر إيزرا كاينسكي إلى طاولته، جلس، تناول ورقة وقلمًا، ودون أن يلهث، كتب قصيدة رائعة عن نملة لا قيمة لها.

وقبل أن تختفي هذه الرؤيا غير الطبيعية فجأة كما ظهرت، أسرع الشاعر إيزرا كاينسكي إلى طاولته، جلس، تناول ورقة وقلمًا، ودون أن يلهث، كتب قصيدة رائعة عن نملة لا قيمة لها.


قصة حقيقية

خوليو كورتاثر

بينما كان أحد الرجال يمشي، سقطت منه على أرضٍ رخامية نظاراته الطبية، وأحدثت صوتًا قويًا أثناء ارتطامها بالأرض.

انحنى الرجل ليلتقط النظارة بحزن، إذ إن العدسات الكريستالية تكلف كثيرًا هذه الأيام، لكنه أُصيب بالدهشة عندما رأى أن النظارة لم تنكسر.

اعتبر نفسه محظوظًا للغاية، واعتقد أن ما حدث أفاده في تعلّم درس جيد؛ فذهب على الفور إلى مركز بيع نظارات طبية واشترى بيتًا جلديًا مبطنًا من الجهتين ليحمي به النظارة.

وما إن مضت ساعة على ذلك حتى سقط منه بيت النظارة مرةً ثانية. وعندما انحنى ليلتقط البيت الجلدي المبطن، صُعق حين رأى النظارة مكسورة.

وحتى الآن، لم يستطع أن يفهم غموض التدابير الإلهية: فالمعجزة، بالنسبة له، كانت قد حدثت اليوم.


الرجل الفيل

خوليو كورتاثر

قطعتُ أذني وخرجتُ من المنزل. في المصعد سألني جاري عمّا حدث، فأجبته أنني تعرّضت لحادث أثناء التزلج على الثلج.

أما بائع الكشك فقلت له إنّ أحدًا ما هاجمني بسكين حاد. وفي المقهى أصرّ النادل على معرفة ما حدث لي، فأجبته: لقد سقطت مني، لا أكثر ولا أقل.

في العمل قلت لزملائي في المكتب إنني مصاب بورم خبيث، فنجح الأمر.

حتى هي اقتربت مني، وقبّلتني على وجهي. كان صوتها رائعًا، ورائحتها عطرة، حتى إنها بدت أجمل بكثير عن قرب.

بعد مرور عدة أيام، عاد كل شيء كما كان سابقًا.
البارحة فقط… قطعتُ أذني الثانية.


الهاتف الذكي

خيسيي آرونسون

يوجد في هاتفي الجوال نظامٌ معجمي يتنبأ الكلمات التي أريد أن أكتبها، بحيث أنني عندما أبدأ بالضغط على الأحرف بغية كتابة كلمة، يقوم هذا المعجم بالبحث على المصطلحات المشابهة للكلمة ويقترحها.
فعلى سبيل المثال عندما أريد أن أكتب كلمة "حنان"، يقوم المعجم الهاتفي باقتراح كلمة "جفاف"؛ وعند أدخل كلمة "فم"، يقترح كلمة "نم"؛ وعندما حاولت كتابة كلمة "صوت"، يعطيني كلمة "موت"؛ وعندما أريد كتابة "كلمة" يقترح لي "نملة". كلمة "زوج" تتحول إلى "موج"؛ و"صمت" تتحول إلى "صوت". وهكذا.
غير أنه هناك شيء غريب جداً في هذا المعجم، ذلك أنني في كل مرة أريد فيها أن أكتب كلمة "أقرب"، يظهر لي دائماً اسمك.


العدم

خيسيي آرونسون

في البدء أشعل الظلال،
وفي اليوم الثاني قتل الرغبة،
ثم في اليوم الثالث انشغل باحتواء الدهشة،
وكان اليوم الرابع كله لكبح الأحلام،
حطم الكلمات كلها في اليوم الخامس،
وفي اليوم السادس قرر أن يطفئ الصوت،
وأخيراً اختفى في اليوم السابع.


الملكان والمتاهتان

لويس بورخيس

يروي السادةُ الكِرام أصحاب الثقة (ولكن الله يعلم أكثر) أنه في العصور الأولى، جمع أحد ملوك جزر بابل جميع سحرة البلاد ومعمارييها وأمرهم ببناء متاهةٍ بغاية الدّقة والتعقيد بحيث لا يجرؤ على دخولها أشد الرجال دهاءً، وكل من يدخلها لن يستطيع الخروج منها.
كانت هذه المتاهة فضيحة، ذلك أنَّ الحيرة والروعة عملان من صنع الإله وليست من اختصاص الرّجال. مع مضي الزّمن جاء إلى بلاط هذا الملك أحد ملوك العرب، ولمّا أراد ملك بابل أن يسخر من بساطة ضيفه، جعله يدخل في متاهته التي طاف فيها مذلولاً، حائراً حتى حلول الليل، عندئذٍ، وبمناشدةٍ إلهيّةٍ عثر على الباب.
لم تنبش شفتاه بأية شكوى، ولكنه قال لملك بابل إنه في الجزيرة العربية يوجد متاهة أخرى، وإن شاء الله، سوف أمنحك شرف معرفتها في أحد الأيام.
عاد بعد ذلك إلى الجزيرة العربية وجمع قادة جيشه وجنوده وهاجم ممالك بابل بشجاعة وبسالة، محطماً قلاعها العالية وهازماً جيشها، كما أنه أسر نفس الملك وربطه فوق جمله السريع وأخذه إلى الصحراء.
وبعد مضي ثلاثة أيام على ظهر الجمل في الصّحراء قال له: آه، يا ملك الزّمن والمادة وأرقام القرن، في بابل أردتني أن أضيع في متاهة من البرونز، لها أدراج كثيرة مليئة بالأبواب والأعمدة،
والآن القادر أراد لك أن ترى متاهتي، حيث لا يوجد أدراجٌ لصعودها، ولا أبوابٌ لفتحتها، ولا أروقة لعبورها، ولا أعمدة تمنعك من المرور.
بعد ذلك فك قيده وتركه في منتصف الصحراء، حيث مات من الجوع والعطش.
حقاً إنّ العظمة هي لذلك الذي لا يموت.


[ ترجمها عن الأسبانية: جعفر العلوني ]

موقع جدلية – هوامش

مانويل بيروو Manuel Peyrou (1902-1974، بوينوس آيرس) كاتب أرجنتيني. من أعماله: "المساء غير المكتمل", "قوانين اللعبة" ورواية "الابن المرفوض".

راؤول براسكا Raúl Brasca (1948) كاتب أرجنتيني. روائي وقاص وناقد أدبي، حاصل على العديد من الجوائز الأدبية عن أعماله القصصية القصيرة، أهمها جائزة "El cuento" المكسيكية. من أعماله: "ألعاب أخيرة", "المياه الأم".

إيوخينيو ماندريني Eugenio Mandrini (1936) كاتب قاص وشاعر أرجنتيني معروف. له العديد من القصص، أهمها مجموعته: "مخلوقات في غابة ورقية". حصل على جائزة Olga Orozco للشعر عام 2008.

خوليو كورتاثر Julio Cortázar (1914-1984) كاتب ومفكر أرجنتيني. يعد واحداً من أكثر كتّاب القرن العشرين أصالة وتجديداً ويضاهي بأعماله بورخس وتشيخوف. من أعماله: "الأسلحة السرية", "الوقت الضائع" والعديد غيرها.

خيسيي آرونسون Giselle Aronson (1971) كاتبة أرجنتينية. برعت بكتابة القصة القصيرة جداً. من أهم أعمالها مجموعة قصصية قصيرة جداً بعنوان "الانتظار", اخترنا منها ثلاث قصص.

خورخي لويس بورخس Jorge Luis Borges (1899-1986) واحد من أبرز الأدباء العالميين، قاص وشاعر أرجنتيني. برع بأسلوبه الأدبي الشيق، وبالقصة القصيرة. من أهم أعماله: "كتاب الألف", "كتاب الرمل" والعديد غيرها.

إرسال تعليق

0 تعليقات

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم © 2025