📚الزوار
قصة قصيرة
للكاتب: يوسف إدريس
ماكاد آخرهم يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كالقطار المزدحم حين يصل إلى محطة النهاية،حتى ألتفت "مصمص" وهو ليس أسم دلع ولكنه أسمه الحقيقي " مصمص إلى سكينة التفاتة حادة وقالت بصوت عالٍ:
-بقى أسمع يا ...
واحتارت قليلاً هل تقول لها يابنت ياسكينة أم سكينة فقط..وسكينة كان اسمها سكينة وهي سكينة فعلاً..وهو أسم قد يبدو ريفياً ولكنها لم تكن ريفية النشأة أو الملامح..كانت من مدينة ما ،واحدة من عشرات مدننا أنصاف الكبيرة مؤدبة جداً خجولة جداً ورقيقة أيضاً وكانت تحتل السرير المجاور لمصمص المرأة الضخمة الكبيرة الصدر والثديين التي يميل لونها إى السمرة،ودائماً ترتدي قميص نوم أبيض.
والسريران كانا في عنبر واحد من العنابر الكبيرة التي تحفل بها مستشفياتنا العامة والمركزية والجامعية ،العنبر المعهود ذو الإثنين والعشرين سريرا ..عنبر الحريم .. له تومرجية سليطة اللسان ومنفوخة الجسد مكورة كالبطة .وتومرجي أعمش مفروض أن لا يدخل العنبر وأن يقتصر عمله على المطبخ ودورة المياه، ولكن أحداً لم يعلن يوماً هذا المفروض وأحداً لم ينفذه.
وكانت سكينة الضعيفة الرقيقة الحنونة تحس إذا أطلت النظر إليها أوعمقته أن هناك فعلا أناساً ضعفاء محتاجين إلى الشفقة ،كانت مريضة بمرض مزمن ولها في المستشفى ثلاثة أشهر وأمنيتها الكبرى أن تغادره وتخرج ، ولكنهم لايخرجونها ولا يصرحون لها بالخروج ولايفعلون هذا بعنف أو بحزم كما قد يعتقد البعض ، أنهم يفعلونه بأنصاف الابتسامات أحياناً وبهز الرءوس والطبطبة أحيانا أخرى...وأحياناً بمجرد القول : حالاً..إن شاء الله تخرجي.. أما سبب بقائها أو إبقائها فهو أن مرضها من نوع غريب يحلو للأستاذ ان يحاضر طلابه وأطباءه الصغار عليه ، وأن يريه لزملائه الكبار كما لو كان يريهم قطعة نادرة ضمن مجموعة اصداف أو طوابع بريد يقتنيها .
وسكينة لم تكن مقطوعة من شجرة .. كان لها أشقاء ..في الحقيقة أخ واحد غير شقيق وأختان .. وكان لها خالات وعمات وقريبات كأي إنسان منا وكل إنسان . ولكن رغم هذا كله فلم يكن لها زوار بالمرة .. طوال الأشهر الثلاثة التي مكثتهم بالمستشفى لم يزرها أحد ..من يوم أن أتى بها أخوها وأودعها العنبر لم ترّ وجهه .. تلك حقيقة تعرفها هي ويعرفها الجميع حتى التومرجية السليطة اللسان تعرفها .. وقد تكون مشكلة الخروج تلح على سكينة في احيان كشىء لا بد منه ولا بد من حدوثه ولا بد أن تكلم الطبيب الكبير بشأنه ولكن حدة في الواقع أن يزورها أحد .. أن تغمض عينها وتفتحها فتجد يداً توقظها من النوم أو الغفوة وتقول لها : قومي ياسكينة .. جالك زوار .
طوال أيام الجُمع والأثنين ، والحقيقة طوال ايام الأسبوع يفد العشرات والمئات والآلآف على المستشفى ويوزعون على عنابره ثم على أسرته وقد يخص كل سرير زائر أو خمسة أو عشرة..ماعدا سريرها هي لم يكن يهوب ناحيته أحد ، أو للدقة كان زوار جارتها مصمص يتخذون سريرها كأريكة يجلسون عليها وهي من خجلها لا تعترض أو تأتي بحركة تسبب حرجاً لأحد كانت تغادر السرير نهائياً وتذهب تتمشى في الطرقة أو تخرج إلى شرفة العنبر القدرة هناك حيث تتخذ مستودعاً لأكوام الزبالة وقشر البرتقال والموز واليوستفندي الآتي لابد مع كل زيارة.
وهناك .. في تمشيها هذا كانت سكينة تحزن وتنقبض وتحس أنها مظلومة وأن لابد ثمة خطأ في الكون جعلها تبقى بغير زوار .. إن أخاها باستطاعته أن يخطىء مرة ويزورها وكم زارت هي أخوتها وبنات خالاتها وكان واجبهم في هذه الحالة أن يردوا الزيارة ..ماذا حدث حتى جمد قلوبهم وقساها ؟ ماذا حدث حتى نسيها الجميع هكذا ونسوا أنها في مستشفى ! .. ماذا حدث حتى تنقطع صلتها هكذا بعائلتها وأقربائها وحتى بصديقتها والدنيا كلها ؟ .. لم تكن تدري حتى مجرد إرسال خطاب .. ما أرسل لها أحد خطاباً أو بعث بسلام ..
إحساس لم يكن يشاركها فيه أحد .. كانت أعمق أعماق قلبها هي التي تكتئب وتحزن فقط .. أما كل ما على السطح من وجه وملامح فقد كان يلتف دائما بالابتسامة لا فرق بينها وبين مئزر الصوف الذي تتلفع به .
وطالت المدة ثلاثة أشهر ... وأربعة وخمسة، والمرضى يتغير معظمهم حتى لم يبقى من القدامى سوى جارتها مصمص والوضع على ما هو عليه ، وضع عجيب غريب . فهي صحيح ضيقة بالمستشفى والبقاء فيه تريد بشق النفس أن تخرج وتغادره ولكنها في نفس الوقت ، وإذا ما سألت نفسها لا تعرف أبدا لمن وإلى أين تذهب وماذا بالضبط ستفعل .. لقد كانت قبل دخولها تحيا مع أخيها تخدمه في انتظار أن يتزوج هو أو يأتيها هي عريس ، ولكنها مرضت وكانت تقضي الليل كله تنهج وتكح حتى ضاق بها الأخ وأنتهز أول فرصة أدخلها المستشفى ربما كي لاتعالج بقدر مايتخلص منها ومن حشرجات أنفاسها .. وشقيقاتها كلهن متزوجات ، وهي ليست جميلة حتى يرحب بها زوج أي أخت بل لقد ذبلت وكبرت حتى على الزواج فإلى من تذهب وإلى أين ؟!
وضع عجيب غريب ، فهي ضيقة بالمستشفى ضيقاً لا حد له ومستسلمة لهذا الضيق والحياة في المستشفى استسلاماً لا حد له أيضا كالسجين الذي يتوق إلى الخروج من السجن إلى الحياة والحرية ولكنه حين يجد أنه إذا خرج فلن يعرف ماذا ولا كيف يفعل بحريته تلك ، يستسلم للسجن ..يضيق به ويستسلم له ويكاد يجن بين الضغطين .. ولم تأت المسألة فجأة .. بل وإلى الآن لم تفكر فيها سكينة تفكيراً جدياً أو تدبرت ما فعلت ، ولكنها هكذا جاءت ..مصمص كانت زوجة أحد المعلمين الكبار الذين لا يقل عدد أقربائهم وأنسبائهم وأولادهم ونسائهم وبناتهم عن المئات بأي حال من الأحوال ، ولهذا كان لايمر يوم دون أن يزور مصمص لا أقل من خمسة أو ستة زوار .
يوم العطلات والاعياد يرتفع الرقم حتى يصل إلى الخمسين .. وكان يبدو على مصمص أنها في الوقت الذي تعتب فيه على فلانة الفلانية لأنها لم تزرها مايكاد الزوار يغادرونها حتى تلهث تعبا وحتى تغمغم ببرطمة لا يفهم منها سوى الضيق الشديد بالزيارة والزوار والمسألة بدأت بأن راحت سكينة تسأل مصمص عن الزوار إذا قدموا ، من هم .وماهي درجة قرباهم لها . وماذا يشتغلون ، ولم يكن الأمر مجرد سؤال فحسب ، دأبت سكينة على ملاحظتهم بدقة ومعرفتهم بالأسم حتى لتطفح السعادة من وجهها حين تقول لمصمص بعد خروج زائر .
-مش ده كان مصطفى ابن خالتك اللي بيشتغل في السكة الحديد ..
فبهتت مصمص وتقول :
-الله .. وأنتي أيه اللي عرفك ؟
حينئذٍ تحس سكينة الناحلة الهادئة الساكنة بسعادة داخلية لا حد لها .. غير معقول بالمرة أو مقبول فقد أصبحت لمجرد أنها عرفت من الزائر وخمنته وجاء تخمينها بالظبط مطابقاً للحقيقة .
ولكن هذه السعادة ، بالتكرار . لم تعد تحدث ووجدت سكينة نفسها مدفوعة إلى خطوة أخرى كي تحس بنفس سعادتها السابقة .
فبدأت تقدم مساعدات وتسرع مثلا وتحضر كراسي لزوار مصمص - أو إذا أرادت الأخيرة أن تعزم عليهم بالقهوة أو الشاي أو الغازورة أسرعت سكينة إلى البوفيه .. تحضر الطلبات بنفسها .. وكانت مصمص تأخذ الأمر في أوله بأعتبار أنه نوع من الطيبة من سكينة لا أكثر ، ولكنها بدأت تعجب فعلا وقد راحت سكينة تقوم بأعمال غير معقولة أبداً ، تأخذ الأطفال من الأمهات الزائرات وتداديهم أو تذهب بهم إلى دورة المياه ، وتلعب مع الأبناء الكبار وتقول لهذا الزائر .. والنبي وحياتك ابقى سلم على فلانة وفلان وكأنهم أقرباؤها هي .
بدأت مصمص تستعجب ، ومصمص لم تكن سهله ولا طيبة ولا مسكينة أبدا أنها جهنم الحمراء إذا انفتحت وإذا رأت في الأمر ما يريب .. وكانت سكينة قد زودتها في نظرها كثيراً وبشكل أصبح لا تفسير له ولا تبرير ، تجلس مع الأقرباء والأصهار طوال الزيارة . ولا تغادرهم للحظه وكأنها منهم وعليهم يتحدثون عن أدق أمورهم العائلية الخاصة فلا تخجل ولا تبتعد . بل أكثر من هذا تهتم بها وتناقشها مناقشة المتحمس الغيور ، وتبدأ الآراء أيضاً .. وتنتظر مصمص على أحر من الجمر أن تحس سكينة مرة فتقوم أو تغادر الفراش أو على الأقل تولى إنتباهها إلى الناحية الأخرى بلا فائدة إذا كانت سكينة لا تفعل شيئاً من هذا أبداً ، بل تظل طوال الجلسة بأكملها وبعد الجلسة ايضا تتحدث وتعقب وتحاول أن تدخل مع مصمص في أخص الشئون وفي الغويط . ومصمص . تكظم وتكظم . فصحيح أن سكينة تتدخل ولكنها تفعل هذا وهي راقدة في نفس فراشها لاتغادره . بالعكس أن زوارها هم الذين يجلسون على فراش سكينة وبهذا يعطونها الفرصة للإندماج والتدخل .
بل تطور الأمر إلى ماهو أكثر وبدأت سكينة تقتنص زائر أو زائرة من الجالسين على فراشها وتنخرط في حديث لا ينقطع معه أو معها بحيث تنتهي الزيارة وهم لايتبادلوا كلمة واحدة مع قريبتهم مصمص وكأنهم جاءوا لزيارة سكينة أصلا !
ولقد تكرر الأمر مرة ومرة ، ومصمص صابرة تكظم إلى أن كان هذا اليوم الذي قررت فيه أن تنفجر ، وهكذا ماكاد آخر زائر في يوم الزيارة يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كقطار وصل إلى محطة النهاية حتى التفتت مصمص إلى سكينة التفاتة حادة ، وقالت بصوت بالغ العلو .
-بقى أسمعي يا ..
واحتارت قليلا .. أتقطع العشم والعلاقة والعيش والملح مرة واحدة وتقول يابت ياسكينة ، أم تكتفي بنهرها وتقول ياسكينة فقط ، فإذا قالت لها ياسكينة فكيف تستطع أن تصب عليها بهذه البداية مايتفجر به صدرها الضخم العالي الأسمر من غضب وضيق ، أحتارت مصمص .. وكالبندقية صوبت عيناها إلى سكينة وكأنما لتزيد برؤيتها لها جرأتها وعنف إنفجارها .. كانت قد قررت أن توقفها عند حدها وأن تنذرها بأنها إذا استمرت في اقتناص زائر او أكثر من زوارها هكذا فسوف تمرمط الأرض بزوارها . زوار سكينة إذا جاءوا والعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم .
صوبت مصمص عيناها إلى سكينة لتجدها راقدة في سريرها نصف مغطاة الجسد تحملق أمامها كمن يجتر ذكرى لحظة سعيدة ومرت .. وفجاة أكتشفت مصمص الجهنمية أن تهديدها الذي يكاد يفلت من فمها لا معنى له بالمرة . أجل هكذا . في وضمة مفاجئة اكتشفت مصمص أن سكينة لا يأتيها زوار ولا ينتظر أن ياتيها أحد .. وهكذا بعد أن كانت قد استدارت واستدار السرير لاستدراجها وقالت : بقى أسمعي يا ...
وحين التفتت سكينة بدهشة ونوع من الذعر تسأل : نعم ياست مصمص .. لم تغير مصمص رقدتها ولا رفعت عينيها عن وجه سكينة .. كل ما في الأمر أن صوتها إنخفض فجأة حتى كاد لا يُسمع
وقالت :
لا .. ولا حاجة .. ده كانت كلمة كده وعدت ..
قالت هذا وهى ترمق الفتاة بعينين مشتتتين فوق وجهها .. يكاد يطفر منها الدمع .. وظلت مثبتة عيناها فوق وجه سكينة لا ترفعهما وكانها تراها لأول مرة .. رفيعة نحيلة مقطوعة من شجرة !
تمت ...
📚
ملاحظة
تم جلب نص القصة بواسطة مشهد 12على أنه برخصة المشاع الابداعي أو
أن المؤلف موافق على نشره وأنه في حالة الاعتراض على النشر بواسطتنا الرجاء
التواصل معنا




0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً