إيقاع الكلمة بين العدوى والصخب الجماهيري: تأملات في "سيكولوجية الجماهير"

تأملات في "سيكولوجية الجماهير

إيقاع الكلمة بين العدوى والصخب الجماهيري

تأملات في "سيكولوجية الجماهير"

محمد توفيق

للكلمة إيقاعٌ سحريٌّ يجذب الانتباه، ويُثري الخيال، ويؤثّر في الوجدان، ويُلهم العقل. هي لُغزٌ حقيقيٌّ وسرٌّ من أسرار الوجود، وبناءٌ قائمٌ على هدم الثوابت الرجعية من خلال عمليةٍ تركيبيةٍ تتلاحم فيها الأحرفُ والكلماتُ والعبارات. تلخِّص سرديّاتٍ لها أثرٌ نفسي وعقلي.

للكلمة تأثير قوي جدًّا على العامة "الجمهور"، ولذلك استخدم القادة منذ القدم تقنيةً من أهم تقنيات التأثير الجماهيري، تُعرف باسم الكتابة الجماهيرية، وهي نوع من الكتابة يستهدف الجمهور العام بمختلف مستوياته الثقافية والتعليمية، ويهدف إلى التأثير في قطاعٍ واسعٍ من الناس من خلال أسلوبٍ مباشرٍ وأفكارٍ تُناسب الرأي العام.

📝 "الخُطب صُنعت لتؤثِّر في الجموع، لا ليقرؤها العلماء."

جملة لخَّص بها غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير أثرَ الخُطب والعبارات الرنّانة على العامة، وكيف تتوغّل الكلمة في العقل والوجدان، ودورها في بناء الأمم أو انهيارها.

في الخطابات السياسية، كلُّ كلمةٍ لها ثِقَل، وتُوزَن بميزانٍ حساسٍ للغاية، قائمٍ على قياس الرأي العام بأسره. يرغب القادة أن تكون الكلمةُ حاسمةً ومُقنِعة، تدعو إلى فعلٍ واقعيٍّ مبنيٍّ على الإقدام، لا على التأمل أو التبصّر، لأنهما يؤديان إلى الشك، والشكُّ يؤدي إلى السكون، والسكونُ يؤدي إلى الوعي والتبصّر.

يرى لوبون أن في حالات التلاحم الجمعي يكون للكلمة أثرٌ سريعُ الانتشار بين الجمهور، ويصفه بـ"العدوى"، ويؤكِّد على فكرة أن الأفراد في الجماعات يتقاربون إلى حدٍّ يصل إلى ما يُسمّيه الوحدة العقلية، حيث تتلاشى الشخصية الواعية في اللاواعية، فتصبحَ الفرد في الجموع لقمةً سهلةَ المضغ بين فكيّ الخطابات الجماهيرية، وجُمَل التعبئة الشعبوية القائمة على العبارات الرنّانة والشعارات الجوفاء.

ومع كل موسمٍ انتخابيٍّ، تظهر حالةٌ من الائتلاف الوقتي، المرهون بعفويةٍ زمنيةٍ لموقفٍ أو اتجاهٍ ما، وشعارٍ للمرحلة الآنية، فيردد العامة ومريدُو المرشّح تلك الشعارات عن ظهر قلب، وتنتشر بينهم كالعدوى.

لكن يبقى السؤال: كيف تُقابَل الكلمة المضادّة وسط أجواء الصخب الجماهيري؟

من وجهة نظر لوبون، تتلاشى الشخصية الفردية في حالات الانضمام الجماهيري، ففقدان الشعار يعني فقدان الهوية. لذلك تُقابَل الكلمة المضادّة بالرفض الأعمى، لأن فقدان الجموع لشعارها كفقدان جذور ماهية وجودهم، إذ يسود الواقع الوهمي على الحقائق المثبتة. كما أن أشدَّ الثورات عنفًا لا تؤدي إلا إلى تغيّرٍ في الألفاظ، لتُعاد دائريةُ الائتلاف الجماعي حول الفكرة نفسها، لكن بصيغٍ مختلفة، وهكذا إلى ما لا نهاية.

في العصر الحالي، أصبح انتشارُ العدوى الجماهيرية أسرعَ بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، التي حوّلت العالم إلى قريةٍ كونيةٍ صغيرة، من خلال الانتقال الفُجائي من الجزئي إلى الكلّي، ومن التخصيص إلى التعميم. مما أظهر التشتّت النفسي والأوهام الاجتماعية، وجعل التعامل مع المظاهر اليومية اعتياديًا إلى حدٍّ كبير، فزخمُ الأحداث وتواليها أفقد الإنسانَ ملكةَ التبصّر وتأمّل أي حدثٍ في لحظة سكونٍ وصفاءٍ روحيٍّ خالٍ من شوائب المؤثّرات وضجيج الإشعارات.

🌟 التأملُ إرادةٌ وملكةٌ نادرة، يتصف بها ذوو البصيرة.

إرسال تعليق

0 تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم