حرر : ندى رستم
من هنا... من أرضٍ كتبت أول حروف الحضارة، ونقشت الوعي الإنساني على ضفاف النيل، وأقامت أول حجر في معمار الخلود.
من هنا... من قلب مصر، حيث انبثقت الشرائع، وولدت الفلسفة، وتجلى الإنسان لأول مرة وهو يسأل عن معنى الخلود والإله والملك.
من تحت رمال الجيزة، حيث ينام الزمان مطمئنًا منذ آلاف السنين، يبدأ الهمس... همس يشبه النبضة الأولى حين خُلقت الحضارة، وبزغ فجر الضمير على أرض النيل المقدّسة.
تهتز الظلال حول الأهرامات فتتردد أصداء الصمت المهيب في وادي الملوك، كأن الأرواح تستعد ليقظتها الكبرى.
إنها الخبيئة المصرية العظمى.. الكنز الذي خبّأه الزمن في طلاسم النور والصمت، وقد آن أوان البوح.
بعد صمت آلاف السنين، تستعد مصر لأن ترفع الغطاء عن سرها الأقدس… سر يبدأ من مقابر الملوك وينتهي في ذاكرة الأجيال، من المعابد إلى المتحف، من الماضي إلى الخلود.
توشك الخبيئة الكبرى أن تفتح فمها الحجري لتحدث العالم عن ملوك مشوا على الأرض كأنهم آلهة، وعن حضارة لم تعرف الموت، بل علّمت البشر معنى الخلود.
استعدوا.. فمصر — مهد التاريخ ومكمن الأسرار — توشك أن تكشف للعالم عن أقدس كنوزها. وما سيخرج هذه المرة لن يكون ذهبًا ولا حجرًا، بل إعلانًا جديدًا لقيامة الحضارة ذاتها.
إنها الهدية المصرية الجديدة للبشرية؛ خبيئة من نورٍ وتعاويذ، مغلّفة بعبق "كتاب الخروج إلى النهار" وأسرار البرديات الأولى، تلك التي تنتظرها عيون العالم بشغف ولهفة.
ويتساءل الجميع: ماذا سيقدم أحفاد المصريين القدماء بعد كل ما منحته أيدي الأجداد للبشرية؟
الجواب يأتي من جوار أهرامات الجيزة... من هناك يشيد المصريون بأيديهم وعقولهم أعظم متحف عرفه التاريخ الحديث: "المتحف المصري الكبير".
أيقونة جديدة تُضاف إلى سجل المعجزات المصرية، وصنفه الخبراء كأكبر وأفخم متحف في العالم، وواحد من أعظم الإنجازات الحضارية في العصر الحديث.
على بعد 2500 متر فقط من أهرامات الجيزة ينتصب المتحف المصري الكبير شامخًا على مساحة تفوق نصف مليون متر مربع، مساحة تُوازي مدينة كاملة، وقد نال لقب "أفضل مشروع في عام 2024" ليؤكد أن ما تصنعه مصر اليوم يضاهي معجزاتها القديمة.
منذ لحظة اختيار موقعه بدا أن المتحف ليس مجرد بناء من الحجر، بل فكرة تربط الماضي بالحاضر وتفتح أبواب المستقبل. فقد صُمّم على هيئة مثلث يواجه الأهرامات، كأنه يتممها في معجزة بصرية جديدة تجمع بين عبق التاريخ وحداثة العصر.
هنا يسير الزائر داخل الزمن نفسه، خطوة بخطوة، حتى يبلغ عظمة الملوك الذين حكموا العالم قبل آلاف السنين.
يبدأ المشهد من البهو الملكي، حيث يقف الملك العظيم رمسيس الثاني في استقباله، ماثلًا في تمثاله الأضخم كأنه عاد ليحكم الأرض من جديد. وخلفه يمتد الدرج الأعظم (سلم الملوك) تصطف على جانبيه تماثيل الملوك من عصور مختلفة، حتى صار يُعرف بأنه أفخم وأغلى سُلَّم في العالم.
ومن هناك تبدأ الرحلة عبر اثنتي عشرة قاعة ضخمة تروي قصة الإنسانية منذ فجرها وحتى اليوم. رحلة لا تعرف الانقطاع، لأن مصر وحدها لم تعرف انكسارًا حضاريًا قط.
وفي قلب المتحف تتربع القاعة الملكية الكبرى للملك الذهبي توت عنخ آمون على مساحة سبعة آلاف متر مربع، تضم أكثر من خمسة آلاف وخمسمائة قطعة أثرية، يضاف إليها ألف وسبعمائة قطعة تُعرض لأول مرة، لتقدم تجربة تفيض بالعظمة والدهشة.
وللمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنًا، سيُعرض تابوت الملك توت عنخ آمون داخل المتحف المصري الكبير، ذلك التابوت الذي لم يره العالم إلا في مقبرته بالأقصر منذ اكتشافه عام 1922. واليوم بعد ترميمه الدقيق يعود إلى النور، كأن مصر تفتح صفحة جديدة من كتاب الخلود.
ولأن مصر لم تكن حضارة روح وفن فقط، بل قوة وعلم وهندسة، فإن المتحف يعرض أيضًا العجلات الحربية المصرية القديمة، التي كانت أساس فكرة المركبات الحديثة — الدبابات والمدرعات — لتؤكد أن عبقرية المصريين سبقت العصور في كل المجالات.
كل زاوية في المتحف تحكي قصة، وكل قطعة تهمس بلغتها الخاصة. الإضاءة مدروسة لتجعل القطع تتلألأ كنجوم على مسرح الخلود، والزجاج مقاوم للعوامل البيئية، وأنظمة ذكية تراقب درجة الحرارة والرطوبة لحماية كنوز لا تقدّر بثمن.
وعند نهاية الرحلة، حين يصعد الزائر "الدرج الأعظم" تطل أمامه الأهرامات في مشهد بانورامي يخطف الأنفاس، حينها يدرك أنه لم يزر متحفًا فحسب، بل عبر الزمن نفسه.
إن المتحف المصري الكبير ليس صرحًا معماريًا فقط، بل بوابة زمنية تفتحها مصر للعالم ليرى ذاته الأولى، حيث الإنسان في أبهى صور الإبداع والعظمة. إنه إعلان جديد بأن مصر ما زالت وستظل قلب التاريخ ومهد الإنسانية.
فهذا المتحف ليس مجرد مكان.. بل رسالة مصرية خالدة تقول للعالم: حضارتنا لم تندثر، بل لا تزال تنبض بالحياة، وتتكلم من جديد بلغتها، وبعظمتها، وبجمالها الأبدي.
هكذا تتكلم مصر... لا بصوت مرتفع، بل بصوت التاريخ نفسه. فمصر جاءت أولًا.. ثم جاء التاريخ.❤️

0 تعليقات
أترك تعليقاً ملائماً