بيت من لحم .. الصمت الذي يصرخ — تحليل قصة يوسف إدريس عن الحرمان والإنسان

                                   

قصة بيت من لحم - يوسف إدريس

                      

  💔 حكاية الجوع الإنساني في غرفة واحدة    

قصة بيت من لحم
قصة قصيرة للكاتب " يوسف إدريس "

الخاتم بجوار المصباح .الصمت يحل فتعمى الآذان.في الصمت يتسلل الأصبع. يضع الخاتم 

في صمتٍ أيضاً يطفأ المصباح.

والظلام يعم.

في الظلام أيضاً تعمى العيون ..الأرملة وبناتها الثلاث .. والبيت حجرة.. والبداية صمت.

الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة " في الخامسة والثلاثون "

بناتها ايضا طويلات فائرات،لايخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد ..صغراهن في السادسة عشر وكبراهن في العشرين..قبيحات ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات ..وبالكاد أخذن من الأم العود .

الحجرة رغم ضيقها تسعهن في النهار..رغم فقرها الشديد مرتبة أنيقة،يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الإناث الأربع..في الليل تتناثر أجسادهن كاكوام من لحم دافىء حي،بعضها فوق الفراش،وبعضها حوله ، تتصاعد منها الأنفاس حارة مؤرقة، أحيانا عميقة الشهيق

الصمت خيم منذ مات الرجل ، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل.. أنتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وأبرزها الصمت ..صمت طويل لايفرغ اذ كان في الحقيقة صمت إنتظار ، فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لايجيئون..ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كان القبح هناك فهناك دائما من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك فهناك دائما الأقبح ، والأماني تنال .. أحيانا تنال بطول البال .

صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة .يتصاعد في روتين لاجدة فيه ولا انفعال ..والتلاوة لمقرىء ، والمقرىء كفيف، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لايتغير ..عصر الجمعة يجىء بعصاة ينقر الباب،ولليد الممدودة يستسلم ، وعلى الحصير يتربع.وحين ينتهي يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لايحفل أحد بردها،ويمضي.بالتعود يجىء..وبالتعود يقرأ..بالعادة يمضي،حتى يعد يشعر به أو ينتبه اليه أحد.

دائم هو الصمت ،حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت..دائم هو كالانتظار،كالامل ..أمل قليل ولكنه دائم،فهو أمل على الأقل .دائماً هناك لكل قليل أقل .وهن يتطلعن لأي أكثر..أبداً لايتطلعن .

يدوم الصمت حتى يحدث شىء ..يجىء عصر الجمعة ولا يجىء المقرىء..فلأي اتفاق مهما طال نهاية وقد أنتهى الأتفاق. وتدرك الأرملة وبناتها الان فقط كنه ماتقدم.ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان ولو في الأسبوع مرة يدق الباب.بل اشياء أخرى يدركن ..فقير مثلهن هذا صحيح،ولكن ملابسه أبداً كانت نظيفة.وصندله دائما مطلي.وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون.وصوته قوي عميق رنان.

والإقتراح يبدأ: لماذا لايجدد الاتفاق ومنذ الآن؟ ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن ! الانتظار ليس بالجديد .وقرب المغرب يأتي ،ويقرأ وكأنه اول مرة يقرأ ، والإقتراح ينشأ..لماذا لاتتزوج إحداهن رجلاً يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب لم يدخل دنيا،وله شارب أخضر ولكنه شاب.وبالكلام يجر الكلام.هاهو الآخر يبحث عن بنت الحلال

البنات يقترحن والأم تنظر في وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح.ولكن الوجوه تزور مقترحة " فقط مقترحة" قائلة بغير الكلام : أنصوم ونفطر على أعمى؟! .هن مازلن يحلمن بالعرسان ،والعرسان عادة مبصرون،مسكيناتلم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينه.

- تزوجيه أنت يا أماه..تزوجيه.

- أنا ؟! . ياعيب الشوم .. والناس ؟!

- يقولون مايقولون .. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال.

- أتزوج قبلكن ؟ .. مستحيل 

- أليس من الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك ؟ .. تزوجيه يا أماه .

وتزوجته ..زاد عدد الأنفس واحدة،وزاد الرزق قليلاً ، ونشأت مشكلة أكبر .

الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما ، هذا صحيح ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب ..ولو صدفة ! فالبنات الثلاث نائمات ،ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما .. كشافات عيون،وكشافات آذان،وكشافات احساس، البنات كبيرات ..عارفات ومدركات .. والحجرة كانما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار .ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن ولم يعدن إلا قرب الغروب، مترددات خجلات يقدمن رجلاً ويؤخرن رجلاً ،حتى يزددن قربا وحينذالك يدهشن.. يربكهن .. يجعلهن يسرعن ضحكات .. قهقهات رجل تتخللها سخسخات امرأة .. أمهن لابد تضحك ..والرجل الذي ماسمعنه إلا مؤدباً خاشعاً ها هو يضحك! بالأحضان قابلتهن ولاتزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولاتزال تضحك، وجهها..ذالك الذي أدركن للتو انه كان مجرد فانوس مطفأ عشعش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة أنار ، ها هو امامهن كلمبة الكهرباء مضىء .هاهي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك، تلك التي كانت مستكنة في قاع المحجر .


بيت من لحم - يوسف ادريس


الصمت تلاشى واختفى تماماً .على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء نكت تترى وأحاديث وغناء . صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبدالوهاب ، صوته عال أجش بالسعادة يلعلع.

خيراً فعلت يا أماه . وغداً تجذب الضحكات الرجال ،فالرجال طُعم الرجال .

نعم يابنات، غداً يجىء الرجال ويهل العرسان .ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها ليس الرجال أو العرسان ولكنه ذالك الشاب.كفيف فليكن.فما أكثر مانعمى عن رؤية الناس لمجرد انهم عميان.هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة،ذالك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.

الصمت تلاشى وكأن إلى غير رجعة، ضجيج الحياة دب ..الزوج زوجها وحلالها وعلى سنة الله ورسوله ، فماذا يعيب ؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار .حتى والليل يجىء وهم جميعا معا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد ،حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات ،مسمسرات في مرادقهن يحبسن الحركة والسعال..تظهر الآهات فجاة فتكتمها الآهات.

قصة بيت من لحم

كان نهارها "غسيل" في بيوت الأغنياء ،ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يؤوب إلى الحجرة ظهراً،ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأيؤوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى واستعدادا لليل قادم.وذات مرة بعدما شبعا من الليل وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن " إذ هو كل ماكلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا " ولماذا لم تكن تضعه ساعتها ؟!

كان ممكناً أن تنتفض هالعة واقفة صارخة..كان ممكناً أن تجن..كان ممكنا أن يقتله أحد .. فليس لما يقوله إلا معنى واحد .. ما أغربه وأبشعه من معنى ! .. ولكن غصة خائفة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها ..سكتت . بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون راحت تتسمع وهمها الول أن تعرف الفاعلة..إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى . إن في عينيها جراة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق .. ولكنها تتسمع ! الأنفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة كانها محمومة ..ساخنة بالصبا تجأر ، تتردد ، تنقطع، أحلام حرام تقطعها.. أنفاس باضرابها تتحول إلى فحيح ..فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى ، والغصة تزاد عمقا واحتباسا.إنها أنفاس جائعات ماتسمع بكل شحذها لحواسها لاتستطيع ان تفرق بين كومة لحم ساخنة مكتومة وكومة اخرى .كلها جائعه! كلها تصرخ وتئن ، وأنينها يتنفس ليس أنفاساً، ربما رجوات ..ربما ماهو أكثر .

غرقت في حلالها الثاني ونسيت حلالها الأول..بناتها ! والصبر أصبح علقماً ، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر .فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفي ..البنات جائعات ! .. الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم 

أبداً ليس مثل الجوع حرام ! انها تعرفه..عرفها ويبس روحها ومص عظامها ، وتعرفه ..وشبعت ماشبعت .. مستحيل أن تنسى مذاقه .

جائعات وهي التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن ..هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن ، هي الأم ، أنسيت ؟

وألح مهما ألح تحولت الغضة إلى صمت ... الأم صمتت ومن لحظتها لم يغادرها الصمت .. وعلى الافطار كانت .. كما قدرت تماما ..الوسطى صامته .وعلى الدوام ظلت صامته ..والعشاء يجىء ..والشاب سعيداً وكفيفاً ومستمتعاً ..ينكت لا يزال.. ويغني ويضحك ولايشاركه الضحك إلا الصغرى والكبرى فقط .. ويطول الصبر ويتحول علقمه إلى مرض ، ولا أحد يطل .

وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في اصبعها وتبدي الاعجاب به ، ويدق قلب الأم وتزداد دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم ، لمجرد يوم واحد لاغير ، وفي صمت تسحبه من أصبعها ، وفي صمت تضعه الكبرى في اصبعها المقابل .

وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق.

والكفيف الشاب يصخب ويغني ويضحك والصغرى تشاركه .

ولكن الصغرى تصبح .. بالصبر والهم وقلة البخت ..أكبر ..وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم .. وفي صمت تنال الدور .

والخاتم بجوار المصباح .. الصمت يحل فتعمى الآذان .. وفي الصمت يتسلل الأصبع صاحب الدور ويضع الخاتم في صمت ايضاً .ويطفىء المصباح والظلام يحل وفي الظلام تعمى العيون ..ولا يبقى صاخباً منكتاً مغنياً إلا الكفيف الشاب .

الجوع الجنسي في بيت من لحم

فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا .. إنه هو الأخير يريد أن يعرف .. عن يقين يعرف . كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المراة التي تأبى البقاء على حال واحد. فهي طازجة صابحه كقطر الندى مره ، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى ، ناعمة كملمس ورق الورد مره ، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى ، الخاتم دائم وموجود صحيح ولكن ، وكانما الأصبع الذي يطبق عليه كل مرة أصبع ..إنه يكاد يعرف ، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن ، فلماذا لا يتكلم الصمت ؟!... لماذا لا ينطق .؟!...

ولكن السؤال يباغته ذات عشاء ، ماذا لو نطق الصمت ؟ ماذا لو تكلم ؟

مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقهِ 

ومن لحظتها .. لاذ بالصمت تماما وأبى أن يغادره

بل هو الذي أصبح خائفاً أن يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت ..ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله ، والويل له لو أنهار بناء الصمت .

الصمت المختلف الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل .

الصمت الارادي هذه المرة، لا الفقر، لا القبح ، لا الصبر ولا اليأس سببه .

إنما هو أعمق انواع الصمت ، فهو الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الأتفاق ، ذالك الذي يتم بلا أي أتفاق .

الأرملة وبناتها الثلاث.

والبيت حجرة .

والصمت الجديد .

والمقرىء الكفيف الذي جاء معه بذالك الصمت ..وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجه  وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه ، تتصابى مرة أو تشيخ ، تنعم أو تخشن ، ترفع او تسمن ، هذا شأنها وحدها ، بل هذا شأن المبصرين ومسؤليتهم وحدهم .. هم الذين يملكون نعمة اليقين ، إذ هم القادرون على التمييز .وأقضى مايتطيعه هو أن يشك ، شك لايمكن أن يصبح يقيناً إلا بنعمة البصر ، ومادام محروماً منه فسيظل محروماً من اليقين ، إذ هو الأعمى ، وليس على الأعمى حرج .

أم على الأعمى حرج ؟!


تمت ....

 

📚 ملاحظة

تم جلب نص القصة بواسطة مكتبة نور على أنه برخصة المشاع الابداعي أو أن المؤلف موافق على نشره وأنه في حالة الاعتراض على النشر بواسطتنا الرجاء التواصل معنا

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم