في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ : كيف رسم أديب نوبل ملامح الصراع الطبقي الاجتماعي والهزيمة الأخلاقية في ستينيات القرن الماضي؟

صورة نجيب محفوظ: "صورة للكاتب المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ، يظهر وهو جالس مبتسمًا مرتديًا بدلة رسمية، رمزًا للأدب المصري والعالمي."

بقلم : محمد توفيق

يُصادف اليوم الذكرى الـ 114 لميلاد نجيب محفوظ، الأديب الحائز على جائزة نوبل، وأحد أبرز أعلام الأدب العربي، الذي جسّد من خلال مشروعه الأدبي والإنساني جوهر الهوية المصرية، مستنطقًا الحياة داخل الأزقة والحارات الشعبية.
لقد نجح محفوظ في الانتقال بأدبه من محليته إلى العالمية، عبر تصويره الرمزي للمكان، الذي يعكس الأفكار والتحولات الداخلية للشخصيات، ويكشف هشاشة النفس البشرية وصراعات الإنسان الوجودية. قد يبدو المكان حارة بسيطة، لكن الدلالة الرمزية تتسع لتتجاوز حدود الجغرافيا، لتصبح انعكاسًا لصراعات الإنسان وتجارب المجتمع.

وعند دراسة أدب محفوظ وتحليله الرمزي، نجد أن تجربته الأدبية تتسم بثلاثية محورية: "المكان والزمان والرمز"، حيث يلتزم كل عنصر بإطار سردي محدد، دون أن يتعدى أحدهما الآخر.

أولاً: المكان.
المكان في أعمال نجيب محفوظ ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو امتداد إنساني يعكس ملامح القصة وشخصياتها، ويبعث إحساسًا زمنيًا بالحالة العامة للرواية. ومن خلال فهم المكان، تتكشف التأويلات الرمزية، والصراعات الطبقية، ويصبح بالإمكان إدراك تعقيدات الشخصيات وكيفية تأثرها بالبيئة المحيطة بها.

وهنا يطرح السؤال: هل الصراع في مجتمعنا الحالي صراعًا طبقيًا في جوهره، أم صراعًا أخلاقيًا؟
يتجلى ذلك في الطرح الاجتماعي العابر للأجيال، عبر مفهوم "الهزيمة الأخلاقية" الناتجة عن غياب الضمير الجمعي، والتي أدت إلى تفكك القيم وانحلال المبادئ، بدءًا من أعلى الطبقات الاجتماعية، مرورًا بالطبقات الوسطى، وصولًا إلى أدنى الطبقات، كما تتجلى هذه الفكرة في رواية ثرثرة فوق النيل وقصة خمارة القط الأسود.

يجسّد أديب نوبل حالة الانحلال الأخلاقي وغياب الضمير الجماعي من خلال تصويره لمجموعة من الهاربين من الحياة، أو ربما الراغبين فيها. يتجلّى ذلك عبر تصوير حالة التخدير الجماعي بشكل رمزي، ممثلة في المخدرات نفسها كمسكن وهمي للأزمات الإنسانية، حيث يهرب الإنسان من مواجهة واقعه إلى "الخمارة، أو الغرزة، أو حتى عوامة على ضفاف النيل".

صورة لمشهد من فيلم ثرثرة فوق النيل: "مشهد من فيلم ثرثرة فوق النيل يظهر العوامة على ضفاف النيل مع شخصيات الرواية في لحظة تفاعلية تعكس صراعاتهم الاجتماعية والطبقية."

مرايا السقوط وجدلية المكان والقيم في "خمارة القط الأسود" و"ثرثرة فوق النيل"
المكان في أعمال نجيب محفوظ ليس مجرد إطار عام للأحداث يُحدد المحيط السردي، بل هو حالة إنسانية حيّة تتأثر وتتفاعل مع الشخصيات.

على سبيل المثال، في ثرثرة فوق النيل، تُجسّد العوامة الفخمة على ضفاف النيل اتساع اختيارات سكانها في الحياة، فلكل شخص فرص متعددة لتصحيح مساره واتخاذ خيارات مختلفة. وفي المقابل، في خمارة القط الأسود، نجد الخمارة غرفة مربعة ضيقة في أسفل عمارة قديمة بالقاهرة، جوها قاتم، ونافذة وحيدة تطل على حارة خلفية، محصّنة بقضبان حديدية. هذه الضيق الرمزي يعكس حصار الحياة على المهمشين، حيث يصبح المكان نفسه "سجنًا" يجمع بين سجن المكان وسجن الخمرة، مجسّدًا قيود الواقع على الشخصيات وصراعاتهم اليومية.

بالعودة إلى ثرثرة فوق النيل، تتجلّى مظاهر الطبقية الاجتماعية بوضوح من خلال شخصيات الرواية: الإمبراطور السلطاني، الناقد المأجور، المحامي الفاسد (وزير العدل)، الكاتب المأزوم فاقد العقيدة، أنيس زكي (وزير الكيف)، إضافة إلى نساء العوامة الباحثات عن مبررات لانحرافهن. وفي المقابل، في خمارة القط الأسود يتساوى الجميع؛ يجلسون على موائد خشبية عارية، يتناولون نبيذًا متوسط السعر والجودة، وتكتمل لحظات أنسهم بالغناء والشجن، لتتجلّى بذلك حالة من الصفاء الكاذب الذي يغطي على الانحلال الأخلاقي.

يجد نجيب محفوظ في هذا الواقع ما يسميه "سجن الروح"، الناتج عن غياب الوعي وفقدان الذاكرة الجماعية، مشيرًا إلى أنّ الحقيقة لا تكمن دائمًا وسط سطوة العبثية، بل ربما تظهر في لحظة يلتقي فيها الوعي بالضمير، كما جسد ذلك أنيس زكي في ثرثرة فوق النيل، وكذلك الرجل الغامض الذي ظهر ثم اختفى في خمارة القط الأسود.

اقرأ أيضًا

إيقاع الكلمة بين العدوى والصخب الجماهيري: تأملات في "سيكولوجية الجماهير" — محمد توفيق

إرسال تعليق

0 تعليقات

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشمس اليوم